مقالات

بعد ثمانية أعوام: أنا أفضلُ حالا

بحري العرفاوي
حين دُعيت من قِبل زميل/صديق من حاجب العيون إلى ربيع الشعر هناك سنة 2005 بعد حصار خمسة عشرة عام بتّ على أهبة سفر واشتريت كسوة وحذاء جديدين كما لو أنني سأغادر أرض الوطن (وكان جواز سفري محجوزا من 1990 لدى الأمن)،اكتريت سيارة على حسابي الخاص ورفضت أخذ أي مليم من مديرة المهرجان الشعري بل قلت لها أنا مستعد لأدفع لكم وقد استغربت موقفي أيما استغراب في حين تسلم كل الشعراء المشاركين مكافئاتهم وهو حقهم طبعا بل أقل من حقهم خاصة حين يكون شعراء بمستوى آمال موسى ومنصف المزغني وجمال الصليعي وآخرين.
وأنا أغادر المرناقية باتجاه الحاجب كنت أجد كأنني أكتشف تونس للمرة الأولى وأنا الذي جبتها لسنوات مضت شمالا جنوبا ودُعيت لجل أجزائها الجامعية ومهرجاناتها وتظاهراتها الكبرى وبحضور آلاف المولعين بالمعنى والفن والجماليات ثم صرت بعدها لا أجد من يتحدث معي في المعنى ولا يجلس معي في مقهى إلا قليلا قليلا بل وأصبحت حين أزور بوعرادة أتسبب في مضايقات لأهلي وأصدقائي وفي إجهاد لأعوان مكلفين بالأمن السياسي وقد أرسلت لأحدهم مرة قلت له: لماذا يعذبونك ولا يمكنونك حتى من دراجة تتابعني حيث أتنقل في المقاهي فأنا أطمئنك إنما أزور أهلي وأصدقائي وكل اتصالاتي لقضاء مصالح متعلقة بالفلاحة، اعترضني مرة في “زنقة” فاحتضنني بحرارة ثم انصرف بسرعة يخشى أن يُبلغوا عنه.
في تلك الأمسية كان والي القيروان حاضرا ومندوب الثقافة وعدد من المسؤولين وكان عون الكاميرا يسجل الأمسية ولكنه حين جاء دوري وكنت الأخير كف عن التصوير وحين سألت قيل لي تعطبت الآلة، كنت أشعر بغربة مرة هي أشبه ما تكون بمرارة “اليُتم” لولا ما وجدته من ترحاب الصديق/الزميل مهدي الشورابي وكرم ضيافة في بيت والدته .
كنت في الفصل ذات يوم من شهر فيفري 2006حين اتصل بي شخص برقم من خارج الوطن وكنت لا أتلقى من الخارج إلا مكالمة شقيقي من إيطاليا، هذه المرة يتصل بي رقم لا أعرف حتى رمز دولته ، إنه العربي غريب من سويسرا وهو ممثل فكاهي أعرفه من أيام النشاط الطلابي خلال الثمانينات وهو لاجيء كغيره من آلاف المهجرين،اتصل يسألني إن كنت مستعدا لزيارة الجالية في مخيمهم بسويسرا؟ كانت الدعوة كما شلال ماء في قيعة تشققت ظمأ،عبرت له عن استعدادي من حيث المبدأ ولكن قلت له ليس لي جواز سفر فشجعني على التقدم بطلب استخراج جواز وطمأنني بأن النظام بدأت قبضته ترتخي بعد فضيحة قمة المعلومات في 2005، دخلت مركز الشرطة بنفس الشعور الذي دخلته به أيام الحملة إذ كنت أُدعى كل أسبوع تقريبا للتحقيق معي في أي معلومة تصلهم عني، بعد شهر حين تسلمت الجواز من يدي رئيس المركز شعرت كما لو أنني استنبت جناحين و بقيت أحتفظ بصورة جيدة لذاك الشخص إذ زف لي بشرى كانت مستحيلة.
حين التقيت بسويسرا عددا من المهجرين ولا أعرف منهم إلا قليلا غمرني شعور طفل أضاع أهله ثم عثر عليهم…بكيت حتى ابتلت ثيابي وأنا أقرأ عليهم قصيدتي “الدخان”.
التقيت الاستاذ راشد الغنوشي وكانت إقامتي معه في نفس الجناح وكنا نسهر حتى صلاة الفجر وكان العربي القاسمي يومها “واليا” على سويسرا كما قدمه لي الاستاذ راشد مازحا، تعرفت أيضا على إخوة أعزاء آخرين على رأسهم الحبيب العماري وطه البعزاوي ومحسن الجندوبي وآخرين أسعدني التعرف إليهم هناك.
عند عودتي كنت تحدثت مع بعض الأشخاص المقربين عن تلك السفرة …في الدعوة اللاحقة مُنعت من السفر في مناسبتين مرة بشطب التأشيرة بعد الموافقة ومرة برفض التأشير.
كنت أجد أنني “مُحاطٌ” دائما بناقلي التفاصيل وكنت أفهمهم وأسرّب من خلالهم كثيرا مما أريد إبلاغه فالاستبداد “غبي” (وهذه الجملة ذكرتها في نص لي بالموقف يومها).
بعد عودتي من سويسرا ونشر مجموعتي “أختلف” في نفس السنة بالمركز العربي للدراسات والترجمة بلندن وتوزيعه بأوروبا وما وجدته لدي الإخوة من تشجيع عدت بروحية تفاؤلية وبعزم جديد فتكثفت حركتي واتصالاتي خاصة مع وجوه سياسية وإعلامية نشيطة أو لها رمزيتها دون نشاط علني: علي لعريض الصحبي عتيق عبد اللطيف المكي محمد القلوي محمد الفوراتي محمد بوعود محمد الحمروني محمد القوماني الحبيب بوعجيلة عادل الحاج سالم سمير بوعزيز منذر ثابت محمد بوشيحة نجيب الشابي مية الجريبي برهان بسيس الإينوبلي هشام الحاجي منتدى الجاحظ منتدى التقدم المنتدى التحرري وكانت لنا جلسات متنوعة التركيب في مقهى “الشعاع” بالباساج يحضرها العجمي الوريمي سامي ابراهم محمد الحمروني لطفي الحيدوري محمد القوماني فتحي التوزري عبد العزيز التميمي الصادق حمزة محسن المزليني سمير ساسي ….كانت مقالاتي أكثر وضوحا بالموقف ومواطنون وتونسنيوز وحوارنت حتى تملكني شعور بأنني على درجة من سلطة النص يمكنني تجاوز عوالم الشعر إلى عوالم السياسة فكتبت نقدا للإستبداد وللنخبة وللمعارضة المستقوية بالسفارات كما دافعت عن إسلاميين ويساريين وغيرهم و كتبت في ضرورة “التوافق” (فالعبارة لي منذ قبل 2011).وهي استخلاص لفهم ووعي وتجربة وحقائق تجدونها في كتابي القادم “الشعر والجمر”.
لم أكن متهورا ولا مهزوما بل دافعت عن حريتي وحرية الآخرين وكتبت للوطن وسيادته ومارست درجة عالية من سلطة النص وحين عرضت علينا السلطة “الأشياء” عرضنا عليها “المعنى” ومازلنا على مبدئنا وموقفنا من ومع الجميع.
أعتقد أن أي شخص وهو يقارن بين ما قبل 2011 وما بعدها سينطلق من واقعه هو وليس من دراسة في الاقتصاد والاجتماع والصراع الإقليمي والدولي.
بالنسبة لي:

  • بعد 2011 أنا أفضل حالا: أول مرة أتلقى مكالمة من الخارج ولا أتوجس من أن ينالني بسببها أذى، فقد اتصل بي ليلة 12 جانفي السيد لطفي زيتون يقول لي حرفيا: “اكتب لنا قصيدة النصر بن علي سقط”.
  • بعد 2011 أنا أفضل حالا: أتصل بي رئيس حزب سياسي يوم 13 جانفي يقول لي : “أعطيت رقم هاتفك لقناة عربية سيتصلون بك أرجو أن توجه كلمة للتهدئة” أجبته “الأمر حُسمَ” فقال لي “نعم أظنه حُسم” وحين اتصلت بي القناة كان جوابي “الأطفال في تونس الآن يرفعون شعارت قصوى وعليه أن يخرج” في مساء ذلك اليوم اتصل الهاشمي الحامدي يطلب رأيي في ما بعد خطاب الرئيس كان جوابي: “أنا لا أمارس العرافة ولكنني أذكر بما نبهت إليه إنها المقدمات في علاقة حتمية بالمآلات وإن الظواهر الاجتماعية شبيهة بالظواهر الطبيعية في خضوعها لقوانين”.
  • بعد 2011 أنا أفضل حالا: أجدني أكثر مسؤولية وأثقل عبئا إذ لم يعد لي ما أتعلل به من غياب حرية وبطش استبداد وانغلاق آفاق،أنا الآن أكثر فرصا وأوسع مجالا وأوفر حظوظا للحركة والإبداع والنقد والإنتاج والحركة وأنا أثقل مسؤولية تجاه الوطن والناس والقيم.
  • بعد 2011 أنا أفضل حالا: كان “خصمنا” خوف السلطة من الأفكار والمعاني فهي لا تتعامل إلا بأسلوب الخائف ولكن اليوم “خصمنا” هو “فوضى” الخطاب “وسوء التصرف” في الحرية واستسهال المعارك ضد الجميع وبقاموس رديء مؤذٍ واحترابي لا ينسجم مع أشواق الثورة ولا يساعد في تحقيق التواصل والتعارف بين أبناء الوطن وأبناء الأمة حين يتعلق الأمر بمناقشة أحداث كبرى ليست من صنعنا ولسنا نتحكم بها ولا نملك تجاهها إلا إبداء رأي.
  • بعد 2011 أنا أفضل حالا: أجد أنني مسهم في التمهيد لأشواق الثورة وقد صدرت مجموعتي السادسة “نمل ودود” بتونس آخر ديسمبر 2010بعد 22 عاما من صدور مجموعتي “الأبابيل” في 1988.
  • بعد 2011 أنا أفضل حالا: أصدرت سبعة عناوين وشاركت في تظاهرات متنوعة وفي مختلف جهات البلاد وظهرت مرات على قنوات تلفزية رغم عدم حبي للظهور الإعلامي.
  • بعد 2011 أنا أفضل حالا: أتنقل بعائلتي حيث شئنا ونشهد التظاهرات والمسيرات بكل أمان واطمئنان ونعبر عن مواقفنا المسؤولة دون توجس وسوء تأويل ونتحمل كعادتنا مسؤولية مواقفنا المستقلة وأفكارنا النقدية.
  • بعد 2011 أنا أفضل حالا: جددت جواز سفري مرتين وسافرت 14 مرة وشاركت في منتديات دولية وعربية وتكلمت بما أرى ولم أعد إلى مطار تونس متوجسا ولا قلقا.
  • بعد 2011 أنا أفضل حالا: كانت تُعرضُ علينا “الأشياء” تخويفا فنتلطف في ردها واليوم تُعرض علينا تكريما فنُعلي من شأن عارضيها ونعتذر إليهم بنفس اللطف ودون خوف.
  • بعد 2011 أنا أفضل حالا: إذ أعبر عن “أمنياتي” في أقصاها (السيادة الوطنية) ولا أقنع بما يتحقق منها،وقد كنت أعبر عن أدناها (حرية التعبير) وأفرح بما أنتزع منها.
  • بعد 2011 أنا أفضل حالا: لم يعد خصومنا يكتبون تقاريرهم السرية ووشاياتهم بل أصبح “خصومنا” هم من المشتغلين على المعاني والأفكار وأشواق التحرر ولكنهم في الغالب يختلفون فيسيئون الاختلاف ويؤذون ويجرّحون، وأغلب هؤلاء ممن لم يكن لهم علاقة بعالم الكتابة فلا يعرفون تاريخ النساء والرجال ويستعجلون الحكم لهم أو عليهم من خلال تدوينة تلامس هوى أو تصادم شهوة. ولكنها أوجاع المخاض ونزيف الولادة.
  • بعد 2011 أنا أفضل حالا: فالشعب الذي تحرر من عقدة الخوف وتملك فائضَ جرأة وشجاعة لم يعد ممكنا إخضاعه للاستبداد ولم يعد ممكنا أن تنطلي عليه حيل السياسيين والفاسدين وسيقاوم من أجل عدالة اجتماعية وكرامة عيش وتنمية جهوية بعد أن شبع حتى التخمة حرية تعبير.

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock