تدوينات تونسية

في نقد الموت العربيّ …

علي المسعودي
الأرض تمتدّ تحتك، يكسوها رداء ثلجيّ بلا نهايات.. يعبث حذاؤك الغليظ بأديم ناصع البياض. قد تتعثّر بنتوء، فتواصل خطوك دون اهتمام.. ولكن عليك أن تُحاذِر وتعود أدراجك إذا كنت على أرض الشام.. فلربّما داست قدمك على جسد حنّطه الصقيع، جسد شبه عار، يستجلب الدفء بوضع جنينيّ مريع. جسد غادرته روح عاثرة، وقد كان له أهل وكان له سكن.
كلّ شيء ضاع دون أن تذرف عين دمعة أمام حالة إعدام شعب كامل ووطن.
ولكن هل تموت الأوطان ؟ هل تتوه وتضلّ ؟
منذ نعومة أظفارنا، ونحن نقرأ عن مشاريع البعث والنهضة حتى أصابت عقولنا التّخمة وعسر الهضم. ومنذ أن شَببْنا عن الطوق لبسنا من سوق النظريات كلّ وافد ومخيط في البلد.. من الطهطاوي ومحمد عبده، إلى عفلق وعصمت، وانتهاء بماركس وسميث، لم نجن إلا ثمرة واحدة: يحقّ للعربي أن يموت مثل الكلاب في العراء، وأن توارِي سوءته أكوام البَرَد !.
كانت ستُجدي كتب النخبة لو أنّ إحراقها قد يُذِيب الثلوج في طرق مخيّم بالبقاع، أو تُبْقِي على ما نسميه مجازا “حياة” أطفال اللجوء.. غير أنها ستظل محفوظة من أجل تُخمة الأجيال القادمة.
طريق النهضة عندنا ليس سوى طريق للموت: يجتمع اسلاميّ وقوميّ ويساريّ ورابعهم جائع سلطوي فترتسم فورا في عيونهم ساحة حرب بدلا عن خارطة وطن !. يأخذون في التناهش والتقاتل، ثم يستعْدُون الغريب على القريب إلى أن يفنى البشر.. وتنتهي كل الحكاية بكلمة: ارفع رأسك يا أخي، فأنت عربيّ !.
السؤال المؤرق حقّا: لِمَ لا يموت العربيّ ميتة طبيعيّة مثل البشر ؟ كيف أمكنه أن يجمع بين الضحيّة والجلاّد في نفس الإهاب ؟ لِمَ تفوح من أفكارنا دوما رائحة البارود ؟ لم نموت جوعا وقد صنّفنا في الوفرة آلاف الكتب ؟ ونموت بردا ودواوين العواطف تحصيها فتُخطِئ العدّ ؟..
تتأمّل بؤس الواقع فتلقي اللوم على حاكم هنا أو هناك.. ثم تستدرك وتلوم النخبة التي أجازت له كل الخطايا ومهّدت حكمه للبلاد.. والنخبة من الشعب، والشعب لا يذكر من تاريخه إلا أخبار داحس والغبراء.
لا تغرّنّك لغة العصر ومساحيقه، ولا تغرنك ألفاظ الدولة والثورة، والاشتراكية العربية والديموقراطية، وديباجة الدساتير الحداثيّة، لقد ثبت أنها جميعا شيكات مرتجعة دون رصيد.. مازال العربيّ قبَليّ الثقافة قلبا وقالبا، ومازلنا، كما كنّا، قبيلة تقتل كلّ قبيلة. ومازال من عاداتنا الغزو والسّبي، وتمجيد أرباب العشيرة.
•••
• أنت تنظر بسوداوية إلى كلّ الأمور !.
• نعم، أعرني نظارات التفاؤل خاصتك يا أخي، لعلني أمحو بها صور الموت الشامي القادم على أجنحة الصقيع.

اترك رد

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock