مقالات

ما هو "الشيء" المتسببُ الأولُ في تخلفِنا وأزماتِنا ؟

محمد كشكار
سأحدّثكم اليوم على لغز حيّرني: ما هو “الشيء” المتسببُ الأولُ في تخلفِنا وأزماتِنا؟ مواطن العالَم
“الشيء” الذي استلبَ حريتَنا وسلبَ إرادتَنا وأصبحَ يحددُ في حياتِنا كل شيءٍ، هو يعرفُ عنّا كل شيءٍ ونحن لا نعرفُ عنه إلا القليلَ مما سرّبَه هو؟
هل أتانا مع الاستعمار، مع الغزو الثقافي الغربي، مع التكنولوجيا، أو حديثًا مع القنوات الفضائية واليوتوب والفيسبوك؟ هل تصحّ أو تجوز مقاومة هذا “الشيء”، أو من الأفضل التكيّف معه؟ وهل إذا صحت وجازت مقاومته، فهل أعددنا له العُدّة؟ والله حِرتُ وحارَ دليلي ولم أجد لهذا الداء لقاحًا ناجعًا! “الشيء” داءٌ يشبه كثيرًا داء السيدا في إستراتيجيتِه، بدأ بتحطيم قيمِنا-ثغورِنا، ثم أجهز على ما تبقّى من تقاليدِنا-أصالتِنا، ولم يَذَرْ لغتَنا-كيانَنا، فانهارت تحت ضرباتِ منجنيقاتِه أسوارَنا، حصونَنا ثم قلاعَنا، وقد يشبه أيضًا جنرالاً متمرّسًا بفنون القتال، بدأ بتحطّيم الرئتين في جسمنا فارتخت اليدان وشُلت الساقين ولم يَبقَ فينا إلا العينين، عينين ننظر بهما لكننا لا نرى إلا ما يريد هو أن نرى: سرق بذورنا وصدّرها لنا قمحًا، وظفنا سلة ثمار يزيّن بها موائدَه، سخّر مدارسنا لتخريج مهندسيه، افتكّ منّا أسواقنا ليبيع فيه سلعه، همّش أعيادنا وثمّن في قلوبنا أعياده، أنسانا عاداتنا، فرض علينا لغته، حضارته، معماره، دستوره، ديمقراطيته، نظام غذائه، لباسه، موسيقاه، ذوقه، مشيته، أدبه، حتى ميولاته العاطفية.
هاجمنا “الشيء” بعدما هرمنا وتركنا القتال وعجزنا عن النضال وأصبحنا نراه من المحال، أصابنا ضمورٌ في العضلات فتكلست خلايانا المخية ولم تعد تشتغل فينا إلا الخلايا الشوكية، تشتغل لتنفيذ أوامره دون إدراكٍ، أو نكتفي بإشباع رغباتنا المَعِدِية والجنسية، رغبات طبيعية وحياتية ضرورية، رغبات أولية بدائية، باختصار رغبات حيوانية لا ترتقي البتة إلى مستوى الإنسانية. عَصَرَنا حتى دحرجنا إلى الحيوانية، والحيوانية هي الشر بعينه، هي العصارة التي لا يمكن أن تُعتصَرَ أكثر، عصارةُ تَتابُعِ أجيال طويلة من الفساد (1956-2018).
هيمنةُ “الشيء” وتسلطُه جعلا منّا ذرّات لا تساوي شيئًا، ذرّات ممسوحة من تاريخ وذاكرة “الشيء”، تاريخ مزيفٌ ومغشوشٌ وذاكرةٌ انتقائيةٌ وعنصريةٌ، لكن هذا لن يمحو حقيقة وجودنا. ورغم لا معقولية “الشيء” فهو بالنسبة إلينا يمثل كل شيء، وبقدرة ساحرٍ استطاع وفي غفلةٍ منّا أن يقلب المِجَنّ ويُشعرنا أننا نحن هُمُ اللامعقول نفسه. أصبحنا بفضله نشعر أننا ضحايا وشهود في نفس الوقت، شركاء بُلهاء في مسرحية عبثية ضخمة ضخامة العالَم أجمع، ممثلون متقِنون لأدوارهم، أو بالأحرى كومبارس في عملٍ مجهول المخرِج، كومبارس كلما حاولوا التلاؤم مع العمل أو التعوّد عليه أو تبديله، كانت كل محاولاتهم تسقط منذ البدء في العبثِ والعبثُ من جنسِ عملِ “الشيء” وطبيعتِه.
أول مرة أكتب عن شيء دون أن أقدر على تحديدِ هويتِه والغريب أن هذا “الشيء” هو الذي أصبح يحدد هويتَنا رغمًا عن أنوفنا ويسوقنا إلى حتفنا سَوْقَ النِّعامِ، يسوقنا أو يجذبنا، لا يهم، مصيرٌ مجهولٌ نسعى إليه حثيثًا ظنًّا منّا أنه فيه يكمنُ خلاصُنا.
“الشيء” جعل منّا، وفي نفس الوقت، ضحايا جلادين، مسلمين غير مسلمين، مصلين فاحشين، صائمين فاطرين، إسلاميين غير إسلاميين، قوميين غير قوميين، ليبراليين محافظين، علمانيين غير علمانيين، يساريين غير يساريين، ديمقراطيين غير ديمقراطيين، ثوريين رجعيين، حداثيين سلفيين، دعاة إصلاح مفسدين، دعاة صدق كاذبين، دعاة عمل متكاسلين، دعاة ضمير غشاشين، دعاة علم مشعوذين ودعاة نظام فوضويين، أسوياء معوقين.
ماذا يكون هذا “الشيء” الذي غيّر فينا كل شيء؟ حوّل قيمنا السمحة إلى قيم رجعية. حوّل حب الإنسانية فينا إلى قسوةٍ ضد بعضنا البعض. حوّل حب الحقيقة فينا إلى الإدمان على فعل الباطل. حوّل خطابنا إلى خطابٍ مناقضٍ لأفعالنا.
إذا كان هذا “الشيء” هو الكذبة الرسمية، فكيف يمكن أن يكون في الوقت نفسه هو حقيقتنا الرسمية التي لا حقيقةَ لنا غيرها. هذا “الشيء” لا يحمل أي فكرة ولا ينفع معه أي تحليل، ولا حتى محاولة تفسير: “قصة مملوءة بالصخب والعنف يرويها أبله”.
يبدو أن هذا “الشيء” استسهلنا منذ زمان، لم يجد في جماجمنا أمخاخًا فاستوطنها، ثم أنتج من خلالِنا فكرًا متكلسًا، فكرًا لا يؤمن إلا بتأبيد نفسه للبقاء على قيد الحياة حياة ثقيلة الوطأة حياة مطمئنة راضية بالحد الأدنى، فكرًا يسحق الشكوك ويغطي الشقوق ويرمّم السقوط، فكرًا يزيّن لنا الموت البطيء حياة، فكرًا حوّل اتجاه طموحاتنا من الأعلى إلى الأسفل، فكرًا يريد أن يقنعنا أن “الكف ما يعاند الإشفَى” و”العين ما تعلَى عالحاجب” وبأنه من غير المجدي مواجهة الواقع وقول الحقيقة، ويقنعنا أيضًا بأن كذبته هي نهاية التاريخ والحقيقة التي لا قبلها ولا بعدها حقيقة.
هذا “الشيء” أوهمنا بالاستسلام للدعاية القائلة كما يقول ميرابو: “أن الطريق الذي يقود من الشر إلى الخير هو أسوأ من الشر”، وفي استسلامنا ذاك خَضَعْنا بادئ ذي بدء للشر الذي يتمثل أولاً في تراكم رأس المال وأوهمنا أن هذا التراكم سيقود حتمًا إلى الاستثمار والاستثمار يقود إلى الرفاهية (رفاهية القلة على حساب الأكثرية)، و يتمثل ثانيًا في تحرير المبادرة وأوهمنا أن هذا التحرير سيجلب حتمًا تعميم الفائدة فدعه إذن يعمل دعه يمر (و فعلاً مرّ، لكنه مرّ على جُثثِنا، نحن الأجراء الفقراء)، ويتمثل ثالثًا في فتح أسواقنا وأوهمنا أن هذا الفتح سيعدّل الأسعار وسوف يقضي على الاحتكار (كذبة القرن). صدّقْنا “الشيء” واستسلمنا استسلامًا طوعيًّا لأوهامه، فرأينا في شرِّه هذا (الفردانية، الأنانية، الجشع، الربح السهل والسريع، إلخ.) الوسيلة الوحيدة للوصول إلى الخير الموعود، فصرنا نرى الشر نفسَه خيرًا، وغدونا نرى الشر كل الشر في أي محاولة تقاوم هذا الشر وتصمد أمامه: وسط هذا الليل البهيم انبثق في مسقط رأسي فجرٌ واعدٌ منيرْ، قبسٌ من نورٍ. وُلِدت تجربة جمنة من رحم جمنة، فكانت أسعدَ ولادة وأجملَ بشرى بعد 2011، قاومْنا المنوال الليبرالي المطبَّق في واحة ستيل بجمنة (10 آلاف دڤلاية)، صمدْنا أمامه، قضيْنا على استغلال المستثمِر الرأسمالي، وانتقلنا من الشر (الخوصصة التعاقدية الوقتية مع الدولة) إلى الخير (استرجاع مِلكية الشعب للأراضي الدولية وتطبيق منوال الاقتصاد الاجتماعي التضامني)، فأثبتْنا بالتجربة الملموسة أن الطريق الذي يقود من الشر إلى الخير ليس أسوأ من الشر بل على العكس هو الخير كله.
صحافيونا و”الشيء”: كذابون مأجورون، تنحصر مهمتهم في طمس طبيعة “الشيء” نفسه وإظهاره في دور المنقِذ وهو في الواقع مغرِّقٌ بامتياز. ويستمرّ بوغلاّب في نهيقِه ولعماري في نعيقِه، عبر صمتِ عشرة ملايين تونسي ما عادوا يصدّقون حرفًا واحدًا من هذيانهما. ومَن يكرّر خطابَهم، فوق، في القمة، في السلطة، فهم أكثر عزلة ووحشة ممن تعاونوا مع العدو أثناء الاحتلال الفرنسي، هم أيضًا يعرفون أن صحافيينا يكذبون، وأن “الشيء” هو عدو الإنسان.
خلاصة القول: “الشيء” هو عبارةٌ عن حجرٍ غير منحوتٍ سقط على رؤوسِنا من حيث لا ندري، اجتثّ من قلوبِنا المقاومة وغرس مكانها الاستسلامَ والخنوعَ. سحرَنا، خدّرَنا، ودون أن نشعرَ، أوهمَنا أننا أسيادٌ، ونحن له في الواقع عبيدٌ، على أن عبيدَ “الشيء” لا يتقنون استغلال هفوات “الشيء” المتعددة ونقاط ضعفه الكثيرة، ولا يعرفون كيف يتصرّفون، حيال الأخطار التي تتهدد “الشيء” (الإرهاب الداعشي)، إلا حسب كاتالوڤِه الموزّع مجانًا على قنواته الفضائية المأجورة والمنحازة، لا بل بالغوا في غبائهم فأصبحوا يلتمسون له الأعذار ويتعاطفون مع أزماته أكثر من تعاطفهم مع أمثالهم البؤساء بسببه.
خاتمة: والله العظيم عجزتُ عن تفكيك هذا “الشيء” الذي حوّلنا إلى لا شيء. أكون ممنونًا لمن فهم شيئًا من هذا “الشيء” وأبلغني إياه!
أمنية مواطن العالَم: أتمنى يأتي يومٌ ينبثق فيه في تونس وعيٌ جماعيٌّ، وأشاهدُ بأم عيني جميع التونسيين وهم ينهالون بالمطارقِ على رأس هذا “الشيء”، يضربونه حتى يتحطّم، يتفتّت، بحيث يستحيل بعد ذلك إصلاحَه أو ترميمَه. لم يفعلوها في ثورة 14-17 فندموا حيث لا ينفع الندم.
كلمة أخيرة: نحن هنا، المفكرون الأحرار، الأوراق فوق الطاولة، ولم يعد الغش ممكنًا. ومع ذلك فإن “الشيء” مازال يغش. والنظام وحده ما يجب أن نتهم، النظام الذي يدعم “الشيء” ويُقوِّته عن طريق اعتماده حصريًّا على المنوال التنموي العالمي الرأسمالي الليبرالي بجناحَيه الحداثي والمحافظ.
ملاحظة: للأمانة الأدبية، استوحيتُ فكرة وقالب هذا المقال من كتاب “الاشتراكية الوافدة من الصقيع”، مترجَم عن سارتر، سلسلة مواقف الفكر المعاصر، دار الكاتب العربي، بيروت، (أول مرّة لا أجد في كتابٍ تاريخَ إصدارِه).
إمضاء مواطن العالَم، شعبوي-تطوّعي-تضامني-اجتماعي، نسبة إلى تجربة في الاقتصاد الاجتماعي-التضامني، تجربة لا شرقية ولا غربية، تجربة أصيلة نوعية ومبتكرة في جمنة مسقط رأسي:
الناقدُ لا يُطالَبُ ببديلٍ. البديلُ ليس جاهزًا. البديلُ يُصنَعُ ولا يُهدَى. وعلى كل مقال سيء نرد بمقال جيد، لا بالعنف اللفظي. كشكار
“المثقّفُ هو هدّامُ القناعاتِ والبداهاتِ العمومية” فوكو
و”إذا كانت كلماتي لا تبلغُ فهمَك فدعْها إلى فجرٍ آخَرَ” جبران
تاريخ أول نشر على حسابي ف.ب: حمام الشط، الأحد 6 جانفي 2019.

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock