تدوينات تونسية

لجان اليقظة

عبد اللطيف علوي
في بداية التّسعينات أعلن حزب التّجمّع عن تشكيل ما سمّاه “لجان اليقظة”، كانت عصابات من الأهالي لمراقبة الإسلاميّين على مدار السّاعة وردّ الخبر إلى مراكز الأمن. 
أوكلت هذه المهمّة إلى الشُّعب الدّستوريّة، فجنّدت لذلك العشرات في قريتنا وحدها، وربّما عشرات الآلاف في كامل البلاد، كان بالإمكان أن يشكّل ذلك جيش احتياط كامل. شملت هذه اللّجان أعضاء الشّعبة كمشرفين، وأصحاب الحوانيت والدّكاكين، وسوّاق النّقل الرّيفيّ وجيشا من المتقاعدين البائسين، مقابل ستّين دينارا كلّ شهر لكلّ “عميل”.
استطاع بن علي عبر تلك اللّجان، أن يجعل المجتمع يخرج أسوأ ما فيه وأقذر ما فينا وينشره على قارعة الطّريق. في اللّيل، تتحوّل الطّرقات والمزارع إلى حقول ألغام بشريّة، ينتشر القوّادون في نقاط مراقبة حيويّة، على مداخل القرية ومخارجها وقرب منازل المشبوهين، في قشاشيب أو برانس سوداء تلتحم بظلمة اللّيل. ترى كتلة سوداء على جانب الطّريق، لا تتبيّن لها أيّة ملامح، ملتصقة تماما بجذع كالتوسة أو حجر بارد، كتلة سوداء غامضة لا تتحرّك ولا تكاد تتنفّس، تراقب الطّريق طول اللّيل وتتشمّم الأخبار.
في صلاة الفجر، كانت المساجد تمتلئ بأعضاء الشّعب التّجمّعيّة ومرتزقة لجان اليقظة، أكثر ممّا تمتلئ بمن جاؤوا للعبادة. لم يكن الأمر يحتاج إلى ذلك العدد الهائل من المخبرين، لكنّ التّنافس بين القوّادين كان على أشده. لم يعد يكفي أن يكون المرء قوّادا صغيرا ينقل ما يصل إليه من أخبار، صار لزاما عليه أن يجتهد كثيرا كي يثبت ولاءه الكامل للنّظام، وأن يكون له “زبائن” دائمون يضعهم تحت عدساته اللاّقطة طول الوقت لا بعضه، وألاّ يكتفي بنقل الأخبار، بل يتجاوزها إلى استباق النّوايا وما يضمره كلّ فرد على حدة، وما يضمره أولئك السرّيّون مجتمعين، وصار عليه في النّهاية أن يكتسب موهبة التّأليف ليصبح قوّادا استثنائيّا مبدعا. فالأخبار تشِحّ أحيانا، بحكم تضييق الخناق على المشبوهين بالانتماء، في حين أنّ “المركز” يطالبه بتقارير دوريّة، وأحيانا يوميّة، مفيدة، كي يحافظ على موقعه داخل كتيبة القوّادين، وكي لا يتّهم في “شرفه الوطنيّ”، ويصبح هو أيضا، لا قدّر اللّه، فريسة محتملة لقوّاد صاعد، يتلمّس طريقه إلى منازل الخاصّة وخاصّة الخاصّة.
بعض أولئك القوّادين كان يتجرّأ حتّى على حرمة البيوت، فيقترب إلى حدّ الالتصاق بالنّافذة كي يستمع إلى أحاديث العائلة. شعرت ذات ليلة بحركة غريبة خارج البيت، ولمّا خرجت أستطلع الأمر، رأيت شبحا أسود يركض مبتعدا ويغيب في الظّلام، لكنّه كان يبدو من تعثّره وحركاته الثّقيلة أنّه أحد أولئك المتقاعدين الشّيوخ. ركضت خلفه حتّى أدركته وكانت الصّدمة الّتي قصمت ظهري.
ـ عمّي سالم! حتّى أنت!
كان زوج عمّتي، وكنّا نناديه عمّي، تربّينا على يديه، ولم أفرّق يوما بينه وبين أعمامي وأخوالي الحقيقيّين، حتّى اكتشفت يومها أنّه من لجان اليقظة، وأنّه مكلّف بمراقبتي أنا بالذّات قبل الآخرين.
قال لي بارتباك شديد:
ـ إيّاك أن يذهب بك الظّنّ بعيدا، لقد كنت في الطّريق لأسهر قليلا في الحانوت، هذا كلّ ما في الأمر.
أفلتّه من يدي دون أيّة كلمة، وعدت إلى البيت وكتمت الأمر. لكنّني لم أكلّمه بعدها حتّى مات. طحنه المرض شهورا طويلة، وقيل لي أكثر من مرّة إنّه سأل عنّي، لامتني أمّي كثيرا على عدم زيارته، وكلّ أقاربي، لكنّني قسوت حتّى صار قلبي قطعة من الفولاذ، وقاطعته حتّى أفضت روحه إلى بارئها.
#عبداللطيفعلوي
من روايتي #الثقبالأسود و #أسوارالجنة

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock