مقالات

ما هي أسباب انتشار الجرائم الموغلة في البشاعة والدناءة في البلاد العربيّة ؟!

بشير العبيدي
/|\ #أقولها_وأمضي
ما كاد النّاس في المغرب العربي يستردّون أنفاسهم من جريمتين وحشيّتين ارتكبتا في المغرب وتونس، حتّى حملت الأخبار نبأ جرائم أخرى بالجملة، موغلة في الفحش والدناءة والسقوط !
الجريمة الأولى تمثّلت في ذبح وتقطيع أوصال سائحتين أوروبيتين في المغرب الأقصى، جاءتا آمنتين ترغبان في تسلّق مرتفعات لأطول سلسلة جبلية في المغرب العربي، هي سلسلة جبال الأطلس. أمّا الجريمة الثانية، فكانت مشابهة في البشاعة والانحطاط جرت في تونس العاصمة، وتمثّلت في قتل ممثّل الجالية الإيفوارية (ساحل العاج)، أثناء عملية سطو قام بها مجرمون.
وما كاد المغاربة والتوانسة يستعيدون أنفاسهم ويستوعبون بعضا مما جرى في هاتين الجريمتين البشعتين، حتّى سقطت ضحايا أخرى في ظروف أقلّ ما توصف به أنها دون بشاعة التوحّش الحيواني بكثير. ففي تونس، تمّ السّطو على رجل مسالم هو إمام مسجد في باب سويقة، وسط تونس العاصمة، فسقط ميّتا بطعنة سافل رذل، كما اغتصب خنزير خمسيني طفلة في العاشرة من عمرها ليلة رأس السنة، ورماها كمنديل أنف وسط الحقول النائية، وفِي المغرب، في نواحي مدينة افرن السياحية، استفاق النّاس على خبر ذبح امرأة شابة وقطع رأسها، في جريمة أخرى نكراء، هزّت ضمائر النّاس ودوّى ألمها في القلوب…
ما سبب هذه الجرائم الموغلة في التوحّش؟!
أعتقد، ولله تعالى العلم، أنّ أسباب متداخلة معقّدة أدّت جميعها إلى انتشار كبير لهذه الجرائم. وقبل أن أبسط بعض هذه الأسباب، أنوّه إلى أمرين مهمّين : أمّا الأمر الأوّل، فهو أهمية التنسيب في قضايا كهذه من دون أن يمثّل التنسيب أبدا رغبة في التقليل من بشاعة الجرائم المرتكبة. إنها جرائم منتشرة في جميع المجتمعات البشرية قديما وحديثا ولا أدلّ على ذلك من الإحصائيات الرسمية، ومنها جرائم عُرفت ومنها ما بقي طيّ الخفاء والنسيان، وأنّ سماعنا بهذه الجرائم ساعد عليه انتشار وسائل التواصل والإعلام. وَأَمّا الأمر الثاني، فهو التنويه إلى أن الطابع العام لمجتمعات المغرب العربي في تناقض صارخ مع هذه الجرائم العفنة ومع أصحابها، فهي مجتمعات عرفت بالكرم وحسن الوفادة واستقبال الضيف والأجنبي، كما أن هذه الجرائم لم تستثن أجنبيا ولا مواطنا محليا إطلاقا، ونالت من امرأة عادية ومن رجل دين في مسجد كما نالت من الأجانب، وعليه، فإن الحكم على الأغلبية بجريرة مجرمين منهم أمر غير علميّ وغير موضوعيّ، ولا يقول به إلا صاحب غضب يعمّم أو صاحب جهل لا يدري ما يقول.
والآن، أعدّد ما يبدو لي – وفق وجهة نظري – أنها أسباب اكتساح هذه الظاهرة للمجتمعات العربية خاصة، وذلك في النقاط التالية التي أسردها من دون ترتيب تفاضليّ :
أوّلا : مشكلة حضارية قيميّة : ظاهرة انتفاء الوازع الذاتي بسبب سقوط القيم الإنسانية النبيلة في أعين الكثيرين، وشعور البعض الآخر بالإفلات من العقاب الصّارم. فحياتنا المعاصرة التي امتلأت بالأجهزة والتقنيات والصور والأشرطة ونقل المعلومات أنتجتها حضارة إنسانية خاوية من القيم ومفرغة من الوازع الذاتي، وساقطة في ممارسة غرائزها البهيمية، ولذلك بقدر ما حملت هذه الحضارة محتوى فيه الخير والمنفعة وتسهيل العيش، حملت كذلك محتوى بهيميّا غريزيّا بشعا، سهّل في أعين عدد من المرضى الانتقال من حديث النفس بالمحظور إلى الإقدام على الفعل الدنيء… من دون أدنى مشاعر إنسانية تردّها الرحمة أو يمنعها خوف العواقب.
ثانيا : إجرام الأنظمة السياسيّة واستبدادها ساهم في إعطاء أسوأ الأمثلة عبر ابتذال الفتك بالناس والقتل بلا رحمة : فجريمة مثل بشاعة جريمة آل سعود في قتل الكاتب جمال خاشقجي، وجرائم الفتك بالنّاس من دون رادع ولا عقاب في اليمن، وجرائم الفتك بالناس في سورية من دون رحمة ولا شفقة، وجرائم كتلك التي شهدتها الجزائر في عشرية الجمر وذهب ضحيتها مئات الآلاف في التسعينات…. وجرائم الأنظمة العربية زمن سجون تازمامرت المغربي، وبني سليم في ليبيا، والناظور و9 أفريل في تونس وغيرها من المعاملات الرهيبة التي تعرّض لها الإنسان المعاصر، تركت جروحا وقروحا داخل المجتمعات العميقة، فورّثتها العنف الأعمى، وأدت في نتائجها إلى الاستهتار بالنفس البشرية، ولقد قرأت بنفسي مرّات عدّة منشورات في فيسبوك لا يستحى أصحابها من القول بأنّ عدد البشر كثر وأنه لا بدّ من القضاء على نسبة منهم بقطع الرؤوس بحجة التقليل من الناس على الأرض، لكأنهم يحملونهم على ظهورهم أو يدفعون مؤن عيشهم !
ثالثا : دور المخدّرات والمسكرات وضلال إعلامي شامل في المجتمعات العربية، وذلك أن مجتمعات العرب والمسلمين، باستثناءات قليلة، فاقدة للسيادة على نفسها وبرامجها، وواقعة تحت شبه احتلال أجنبي، فانتشرت المخدرات والمسكرات بشكل مخيف جدا، يسندها في ذلك إعلام لاوطني خائن دنيء ومنحط البرامج، يروّج لمادة مهيّجة للشهوات الجنسية والشهوات المرضية تحت لافتة الحرية الشخصية وما شابه، ولو كان للبلاد العربية والإسلامية أدنى وعي بحقيقة ما يجري لما كان في تلك المجتمعات كلّ هده هذه السيول من الخمور والمسكرات والمخدرات التي صارت تهدد كيان المجتمع وتماسكه. وهذا يحصل في الوقت الذي بدأت فيه البلاد المتحضرة في برامج التخلّص من الخمور والمخدرات وتضييق مجال بيعها وترويجها.
رابعا : فساد المنظومة التعليمية العربية القائمة على التوجس من كل نفس ديني، واستفحال التسيّب من ربقة التقاليد الصارمة في هذا الباب، لمحاربة الإرهاب في زعمهم، وبحجة الخوف من الوقوع في الأدلجة الإرهابية، وواقع الأمر، لا توجد أنظمة إرهابية أوقعت الخسران والضياع وجلبت البلاء والهلاك كما فعلت الأنظمة العربية بشعوبها. ولقد أدى ذلك إلى تسييس كلّ ما هو ديني وتوظيفه لأهداف بشعة، فضعف الوازع الديني لكثرة تنازع الناس، واهتمامهم بالقشور والسفاسف والطحالب، وتضييعهم لبّ الأمور وأمهاتها، وهو مما يعود بالنفع على العام والخاصّ.
خامسا : اختراق المجتمعات مع تساهل تدريجي من الناس مع العادات الغريبة عنها، ومنها عادات الخمور والعربدة وهتك ستر الحشمة والتحفظ ليلة رأس العام وفي المناسبات المختلفة، مما فتح الباب واسعا لذبّان المنحرفين وهم يشاهدون أمام أعينهم ما تشتهيه الأنفس المريضة المكبوتة، وزاد انتشار الصور وتناقل الأحداث في التقليل من خطر الانحرافات، وقبول اجتماعي تدريجيّ بالمخمورين ومستهلكي أنواع المخدرات الذين كانوا سابقا منبوذين وممنوعين من غشيان دواخل المجتمعات، في تناقض تام مع القيم المحلية الإسلامية التي لا تتسامح مع كلّ خطر يهدد العقل ويذهب الفطنة، وتدفع المجتمعات الآن ثمن هذا التساهل، والتذرّر والقعود عن مواجهة هذه المخاطر جماعيا لا فرديا، وبتظافر جهود الجميع، لا الضحايا فقط.
أخيرا، إن تضييع الانتماء للقيم المحلية، وفقدان بوصلة الاستقامة، ونكد العيش في ظل التقليد الأعمى الأصم لكل وارد، وفتح الباب أمام من هبّ ودبّ لنشر الفساد والرذيلة والرداءة بحجة الحداثة المتعفنة، فتح الباب واسعا لمثل هذه الجرائم التي كانت تحصل في نطاق ضيق. وليس من سبيل إلا في تكاتف المجتمع، وذبّه عن قيمه المحلّية الإسلامية، برفض الخمور والمخمورين، ورفض الإعلام الموبوء والتعليم المغشوش، والأدلجة التي يروجها المرضى والمنحرفون تحت مظلة الحريات الشخصية، وتنظيف قوات الأمن من المفسدين، وتطهير القضاء من المتساهلين والمتساقطين، ومحاصرة السياسيين الذين لا يكترثون لمعاناة البشر في مجتمعات منكوبة في قيمها، ومنكوبة في حريتها. ولو تركت هذه المجتمعات وشأنها لكان جزاء أصحاب هذه الجرائم ومن يشيعها ويشجعها ههنا : (أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلَافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ۚ ذَٰلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا ۖ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ). لكنّ الذين يتعرّضون اليوم لهذا الضرب من العقاب الشديد هم المصلحون المنادون بالإصلاح. فنحن في عصر المجرمين المنفلتين من العقاب، الحاكم قبل المحكوم.
✍🏽 #بشير_العبيدي | ربيع الثاني 1440 | كَلِمةٌ تَدْفَعُ ألَمًا وكَلِمةٌ تَصْنَعُ أمَلًا |

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock