مقالات

الأساطير المؤسسة للعائلة “الديمقراطية” في تونس

عادل بن عبد الله

عندما حصلت حركة نداء تونس على تأشيرة العمل القانوني في 7 تموز/ يوليو 2012، كان من الواضح أن هذا الحزب الذي ترأسه السياسي المخضرم الباجي قائد السبسي؛ لم يأت “فقط” لتعديل المشهد السياسي ولمنافسة حركة النهضة، بل جاء لأسباب تتجاوز ذلك بكثير، وترتبط باستراتيجيات المنظومة القديمة لإعادة التموضع والانتشار، بعد أن دفعتها الثورة إلى هامش الفعل والتأثير في إدارة الشأن العام. فرغم الدعاية الإعلامية المكثفة التي تتحدث عن حركة “جامعة” ومتعددة الروافد (يساريون، تجمعيون، نقابيون، ليبراليون)، بدا من الجليّ أن هذا الحزب يُمثل الوريث الشرعي (لا الوحيد) للتجمع الدستوري المنحلّ، كما لم يخف أنّ النداء لم يأت ليحقق أهداف الثورة، بل لتحقيق أهداف من عجزوا عن مواجهتها بالقوة العارية إلى حدود 13 كانون الثاني/ يناير 2011.

وبحكم غلبة الصراعات الهوياتية على المشهد التونسي في تلك الفترة، عمل نداء تونس على توظيف تلك الصراعات لصالحه، واستطاع أن يتموضع بسهولة كبيرة ضمن ما يُسمّى بـ”العائلة الديمقراطية”، تلك العائلة التي استطاعت تذويب خلافاتها الأيديولوجية لتتوحد ضمن جبهة ميتا-أيديولوجية لا يجمع بينها إلا أمر واحد: التطبيع مع المنظومة القديمة ورموزها للدفاع عن “النمط المجتمعي التونسي” ضد حركة النهضة وحلفائها في الترويكا. وكان الغالب على الجملة السياسية لهذه “العائلة” (بقيادة نداء تونس) مفردات تنتمي إلى السجل الحربي وإلى عوالم المشاعر والأسئلة البلاغية؛ لا إلى مدارات الفكر والأسئلة الاستفهامية، وهو ما كاد يخرج الصراع من مدارات السياسة والتفاوض السلمي إلى مدارات التنافي والمضاددة المطلقة، وما يعنيه ذلك من تحول “الحرب الوجودية” في المستوى الخطابي إلى احتراب أهلي في الواقع.

رغم انقسام حركة نداء تونس على نفسها إلى عدة شقوق بعد انتخابات 2014 الرئاسية والتشريعية، فإن المشترك الأيديولوجي بين هذه الشقوق يجعلها مجرد تعبيرات مختلفة لعقل سياسي واحد. وهو عقل يشترك مع “العائلة الديمقراطية” في جملة من الأساطير التي يمكننا طرحها في نقاط مختزلة. ونحن لا نزعم أنها نقاط نهائية أو شاملة، وإن كنا نزعم أنها قد تكون مدخلا جيدا لمحاورة “الديمقراطيين” ودفعهم نحو انتهاج سياسة النقد الذاتي ومراجعة أساطيرهم التأسيسية؛ حتى لا يبقوا (بصرف النظر عن ادعاءاتهم ومزايداتهم) عائقا بنيويا رئيسيا أمام بناء الجمهورية الثانية:

1. أسطورة “النمط المجتمعي التونسي” التي ظهرت بالتقابل مع جملة من المحددات السوسيو- ثقافية السابقة لمشروع التحديث البورقيبي أو المحايثة له. فالنمط المجتمعي التونسي هو أسطورة توليدية لجملة من الأساطير المشتقة التي دعمت (ما زالت تدعم) مشروع “الدولة- الأمة” باعتباره فضاء متمايزا عن جملة من الفضاءات الأخرى (مثل الانتماء العربي الإسلامي أو الانتماء الأفريقي أو حتى الانتماء المغاربي). وقد اخُتزل “النمط المجتمعي التونسي” في جملة من المحددات الثقافية (خاصة مجلة الأحوال الشخصية) التي وُظّفت دائما للتغطية على البنية الجهوية- الزبونية للسلطة، وعلى فشلها الاقتصادي والاجتماعي من جهة أولى، وتكريس سياسات التبعية الثقافية والاقتصادية لفرنسا من جهة ثانية.

2. أسطورة أنّ الصراع في تونس هو بين “مشروعين مجتمعيين” أحدهما مشروع حداثي تقدمي (يمثله العلمانيون بمن فيهم التجمعيون)، والآخر مشروع ظلامي رجعي (تمثله النهضة وكل من يقبل بالتحالف معها ولو كان علمانيا). وبالطبع، فإن من يفهم الصراع على هذا الشكل، سيعمل على تحويل الهويات السياسية المتصارعة إلى هويات “ثابتة” و”جوهرية” غير قابلة للتغير، ولا حتى للتفاوض. فالحداثي يبقى حداثيا مهما كانت علاقته بمنظومة الاستبداد، ومهما كان دوره في البنية التسلطية قبل الثورة وبعدها، والرجعي يبقى رجعيا وظلاميا مهما أثبت في سلوكه السياسي خلاف ذلك. ولا شك في أن تثبيت منظومة التسمية هذه، ومحاولة استصحابها بعد الثورة، يعكس نزعة دفاعية رافضة لعملية إعادة التفاوض على آليات توزيع الرساميل المادية والرمزية، وهو ما يتحول أحيانا إلى رفض صريح لاستحقاقات الثورة وما انبثق عنها من مؤسسات.

3. أسطورة “العائلة الديمقراطية” وهي أسطورة أثبتت الثورة أنها لا تتقابل (كما كان يفترض فيها) مع “القوى الاستبدادية” مهما كانت أيديولوجياتها، بل ينحصر تقابلها مع حركة النهضة دون غيرها. فقد رحّبت مكوّنات “العائلة الديمقراطية” بورثة التجمع وطبّعت معهم وفتحت لهم “خيمة تونس” (أي الاتحاد العام التونسي للشغل). ورغم غياب الديمقراطية عن الحراك الداخلي داخل هذه “العائلة” التي تشتكي من غلبة الزعاماتية وتجريم النقد والزهد في المراجعات، بل رغم أن بعضها ما زال يحافظ على قياداته دون أي تفويض قانوني من الهياكل (كما هو حال نداء تونس)، فإنها ما زالت تصرّ على احتكار صفة الديمقراطية، بل ما زالت تصرّ على وضع نفسها موضع “الخطاب الكبير”، أو المرجع “الديمقراطي” الأعلى الذي ينبغي لحركة النهضة أن تأخذ “صك الديمقراطية” منه حتى تُقبل (ولو بعد حين) في العائلة الديمقراطية التونسية.

4. أسطورة “التناقض الرئيس والتناقض الثانوي” وهي أسطورة حكمت أغلب مكونات المعارضة اليسارية زمن المخلوع. وقد سمحت هذه الأسطورة (وهي في الأصل مبدأ نظري تحوّل إلى ضرب من الأسطورة بحكم قدرته التجميعية وامتناعه عن أي نقد جذري) للعديد من الوجوه اليسارية بدخول الحزب الحاكم زمن المخلوع، أو بخدمة استراتيجياته انطلاقا من مواقع مدنية ونقابية وأكاديمية مختلفة، دون الاضطرار إلى التحزّب. ولا شك في أن انفتاح القوى اليسارية السياسية والنقابية والمدنية على ورثة المخلوع بعد الثورة، يجد تأصيله النظري في هذه الأسطورة التي تقول بأن التناقض الرئيس هو مع الإسلام السياسي، وأن التناقض مع منظومة الحكم “البرجوازية” يبقى تناقضا ثانويا رغم أهميته. ولسنا هنا في حاجة إلى التذكير بالكلفة التي كان على الكثير من التونسيين أن يدفعوها قبل الثورة نتيجة هذا المنطق، كما لا نرى حاجة إلى التذكير بالكلفة التي ما زال كل التونسيين يدفعونها؛ نتيجة استصحاب المنطق ذاته بعد الثورة من طرف الجبهة الشعبية وغيرها من قوى اليسار النقابي والجمعياتي.

5. أسطورة “الاستثناء الإسلامي” التي تعني أن الإسلام في ذاته، بعقائده وشرائعه وقيمه ورموزه وتاريخه (وليس فقط في تعبيراته السياسية الحديثة)، لا يقبل العلمنة ولا يتلاءم مع المنظومة الفكرية المؤسسة للاجتماع داخل الدولة الحديثة (الدولة-الأمة). وهي نظرية استشراقية محافظة وجدت لها العديد من الأنصار داخل العقل الحداثي “المستقيل”؛ بتعبيراته اليسارية والليبرالية. ولا شك في أن من ينطلق من فرضية “الاستثناء الإسلامي” لا يمكن أن يتحرك إلا ضد “المشترك الجمعي” في تعبيراته الدينية والقيمية والرمزية، ولا شك أيضا في أن “الحداثي” التونسي الذي تشكل عقله السياسي على أساطير “الكمالية”، وما ارتبط بها من تحديث فوفي، لن يكون في حاجة إلى التعامل النقدي مع أسطورة الاستثناء الإسلامي التي تمثل القاعدة النظرية للمقترحات التشريعية من جهة أولى، وللتعامل الصِدامي مع حركات الإسلام السياسي، بل مع أغلب مظاهر التدين في المجال العام.

6. أسطورة “اللائكية الفرنسية” وصلاحيتها غير الشكوك فيها للمجتمع التونسي قبل الثورة وبعدها. ذلك أن عملية التحديث منذ الاستقلال الصوري عن فرنسا قد ارتكزت على خلفية لائكية تحوّلت الدولة معها إلى ما يشبه الديانة الوضعية، وتحوّل الدين والتدين إلى ما يشبه العدو الوجودي لآليات اشتغالها في عملية الهندسة الاجتماعية بمختلف مستوياتها. ويمعنى من المعاني، لم تكن المحرقة التي تعرض لها أنصار “الاتجاه الإسلامي” في أوائل التسعينيات إلا شكلا من أشكال مقاومة النموذج اللائكي “المُتونس” لأية مراجعة في علاقته بالدين. فورثة اللائكية الفرنسية التي قامت على شعار “اشنقوا آخر إقطاعي بأمعاء آخر قسّيس”، لم يكونوا ليسمحوا بفقدان هيمنتهم على بناء المعنى الديني “الصحيح”، ولا بفقدان الدولة لحقها في احتكار المنابر الدينية وتطويعها لخدمة ثالثوهم العلماني الأقدس: الزعيم- الحزب- الدولة. وما زال أغلب حداثيينا إلى اليوم عاجزين عن التفكير في العلاقة بين الدين والسياسة خارج “الباردايم اللائكي الفرنسي”، رغم أنه مجرد تعبيرة تاريخية مفردة من جملة نماذج علمانية؛ قد تكون الأصلح لإدارة الاختلاف بين مختلف الفاعلين الجماعيين في تونس (مثل العلمانية في الفضاء الأنجلوسكسوني).

لقد حاولنا في هذا المقال أن نحفر في الخلفية النظرية التي وجهت مواقف أغلب الأحزاب “الديمقراطية” في تونس، قبل الثورة وبعدها. ولا شك عندنا في أن المأزق الذي تعيشه الحياة السياسية في بلادنا (بحكم التوافقات الهشة والاستقرار الأكثر هشاشة) يستدعي إكمال الصورة بتفكيك الأساطير المؤسسة لحركات الإسلام السياسي، خاصة الأساطير المؤسسة لحركة النهضة. وهو مجهود نظري سنحاول القيام به في مقال لاحق (إن شاء الله) لبيان وجوه العطالة التي ما زالت إلى هذه اللحظة تقف حاجزا أمام بناء جمهوريتنا الثانية.

“عربي21”

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock