مقالات

لماذا عرب اللحظة هم أغلبية الإقليم وكمبارس أحداثه ؟

أبو يعرب المرزوقي

ملاحظة:
هذه محاولة اعتبرها خاتمة لمحاولات فهم الاستراتيجية الشاملة للوضع في الإقليم وموقع العرب منه. وهي دون تواضع زائف، درس من فصلين في تشخيص الأدواء التي تعاني منها محاولات فهمها بحصر مظاهرها في القطريات واغفال ما يوحد بينها من علاقات هي التي تفهمنا القطريات وليس العكس.
ولا أعتقد أن من يحاولون الاقتصار على القطريات يجهلون ما تجاوزها لكنهم يريدون النكوص إليها لأنها هي التي تخدم بوعي أو بغير وعي ما يحاول أعداء الأمة اخفاءه لأنه يمثل فجر الاستئناف حتى وإن كان فيها ما فيه من السلبيات التي تصحب كل مخاض آمل بل إني واثق من أنه لن يكون من جنس مخاض الجبل بل هو بداية الاستئناف الفعلية رغم قتامة المشهد.

الفصل الأول
هل يمكن أن نقدم تشخيصا يحدد العلل التي تفسر خروج العرب من الماء إلى الماء من مجريات الأحداث وحتى الأحاديث في الاقليم بحيث صارت كل شؤونهم بيد غيرهم وهم مجرد كمبارس ليس لهم من الحضور إلى ما يحتاج إليه الفاعلون من اضفاء الشرعية الشكلية على دورهم المستحوذ على كل شيء؟
وحتى لا يكون كلامي وكأنه أحاجي فلأضرب ستة أمثلة ثلاثة مشرقية ثلاثة مغربية:
1. شرعية اليمن
2. شرعية بشار
3. شرعية حكم العراقيين للعراق.
4. شرعية حكومة السخيرات في ليبيا
5. شرعية البوليساريو في المغرب الغربي
6. وأخيرا شرعية الثورة في تونس.
ففي هذه الساحات الست لا وجود لأهل الإقليم إلا بالاسم والسلطة الفعلية التي تحرك الأحداث وحتى الأحاديث لم تعد حتى وراء ستار بل هي تتصرف علينا وتحضرهم معا لدور إضفاء الشرعية الشكلية بمنطق القانون الدولي. ولعل أبرز مثال هو “رئيس” سوريا و”رئيس ” اليمن. فكلاهما يجسدان هذا المفهوم.
فما جرى في ستوكهولم ليس إلا بسبب مآزق الأمير الاحمق السعودي الذي لم يكفه بيع القدس ليصل إلى الكرسي ها هو ذا يبيع اليمن بشرعية لا حول لها ولا قوة ليبقى له أمل في الوصول إليه وما يجري في اللقاءات حول سوريا بين الثالوث بقيادة روسيا ليس لبشار فيه من دور إلا ما دون ما لرئيس اليمن.
والمثالان الأبرزان ليسا شاذين في الأمثلة الستة التي أشرت إليها بل هما الأكثر وضوحا ويمكن القول بالترتيب أن حكومة السخيرات الليبية وحكومة بريمن الملالي العراقية هما الأقرب لهذين النموذجين ثم تأتي قضية الصحراء الغربية و”الثورة” في تونس في الرتبة الأخيرة دون فرق كبير.
وسأبدأ بالمثالين الأخيرين اللذين أكاد أشك في تصديق القراء لتشخيصي. وأبدأ بتونس التي لي بها صلة مباشرة. فما يجري فيها لا يبشر بأي خير بخلاف من يتوهمون أن الانتخابات القادمة إذا حصلت ستحسم الأمر وتكون تونس قد خرجت من الخطر والاضطراب الذي يشبه فراغات الهواء لطائرة في الجو.
فلا يمكن لبلد أن تنجح فيه الثورة إذا كان لا يستطيع أن يحقق أي إصلاح تقتضيه بسبب أمرين من يغفل عنهما يمكن أن يبقى عائشا في الأحلام حتى يغرق في الظلام.

فالأمر الأول من مقومات مفهوم الجماعة التي لا تفقدها الخلافات السياسية وحدتها الوطنية وذلك لغياب شرطيها في المستويين التاليين:
1. لا وجود لقوى سياسية قادرة على الاعتراف المتبادل هو شرط التعايش السلمي في أي جماعة وإلا فهي الحرب الأهلية الدائمة باردة كانت أو حارة.
2. ولا وجود لتوازن تمثيلي يحققان التداول ما يعني أن هشاشة الدولة تحول دون تنفيذ سلطة القانون الشرعية فيستحيل من ثم الحكم السلمي.
الأمر الثاني من مقومات سياسة الجماعة التي تمكن من علاج هذين الخللين وهو كذلك مضاعف وهو الأخطر:
1. فالحمق السياسي أدى إلى توهم تونس مثل انجلترا يمكن أن تحكم بنظام برلماني بدعوى الخوف من عودة رئاسوية النظام. وهي دعوة حق يراد بها الباطل.
2. والجهل بسر الحكم ووظيفته أدى إلى الغفلة عن القانون الأول في سلطة الدولة. فتفتيت سلطتها لا يحقق الديموقراطية بل هو يزيد من هشاشتها فيحقق شروط الدكتاتورية التي ستكون مطلبا جماهيريا لحاجة الناس إلى الأمن للعيش السوي والاستقرار للعمل المنتج وذلك لأن الدولة الهشة عاجزة عن تصريف الأمر بسلطة القانون في تلك الحالة.
وقد حاولت الإقناع بفساد هذا الخيار قبل حصوله وأصبح من العسير الآن تغييره مثله مثل النظام الانتخابي لأن الأحزاب الصغيرة تريد الثاني شرط بقاء في المضمار السياسي والقوى الخفية تريد الأول ليكون صاعق ما تسعى إليه أي جعل الشعب طلبا للاستقرار أن يؤيد دعاة “البيان رقم 1”.
ومعنى ذلك أن الخلط بين التسيب والديموقراطية هو أعدى أعداء الديموقراطية وثعالب الثورة المضادة في تونس يعلمون ذلك ويستعملون بحذق شديد لأن مثالية الشباب وانتهازية الأحزاب التي تتصور أن النظام البرلماني يمكن أن يمدها على الأقل بإحدى السلطتين لا يمكن أن يمثلا سياسة حكيمة في تونس.

والثابت لدي أن الانتخابات المقبلة إن حصلت ستكون إما خروج النهضة من المولد بلا حمص أو إن ربحت كما يتوقع الكثير ممن لا يقرأون حسابا لما سيترتب عليه سنصل إلى تمصير تونس حتما ما لم تحصل معجزة في الخليج فيسقط الامير الأحمق وينفرط عقد الثورة المضادة. ولا أعتقد أن فهم ذلك سيتأخر كثيرا لأن الحلف الحالي في القصبة لن يطول وسينفرط حتما خلال الإعداد للانتخابات.
وإذا كانت السفارات والبنك الدولي قد أضفيا شيئا من الصمود على ما يجري حاليا ضمانة لأمن أوروبا من عموم الفوضى في الضفة الجنوبية فإن التنافس الانتخابي سيحد من سلطانه الحالي مقبولا إلا بشروط من سيهددون بالفوضى إذا لم تكن الانتخابات أداة “ديموقراطية” لأضعاف النهضة بقدر ذي دلالة.
وإذا لم يضمن للوبيات ذلك فإنها ستحقق شروط مطالبة الشعب بالاستقرار ولو باستدعاء “البيان رقم 1” لأن تونس ليس لها ما مكن الجزائر من التغلب على الفوضى بما لها من ثروة قد تمكن من سياسة البلاد مع توقف العمل وهو ما ليس ممكنا لتونس التي ليس لها حتى بالعمل ما يكفي لعيش مريح وكريم.

اكتفيت بذكر ستة نماذج اعتبرها ضحايا الحمق السياسي ولم اذكر الأربعة الباقية التي تمثل الادوات المباشرة لمحركي اللعبة في الاقليم بوصفهما ذراعي اللاعبين الدوليين بالإقليم. هذان معلومان. والذراعان هما إسرائيل وإيران والأدوات هي الرابوع النجس الذي يقود الثورة المضادة وهو معلوم.
وهذه الرابوع مؤجل حتى أفرغ من الستة ضحايا أو نماذج المشرق ونماذج المغرب. وقد بدأت بتونس بوصفها بداية الثورة وعلـي أن أثني ببداية نكستها أي سوريا. فـما جرى في هذه بأقصى العنف يجري مثله في تلك بأقصى اللطف لكن العملية واحدة: كيف يتم إفشال الثورة بالطريقتين الممكنتين اللتين تمثلان نوعي الأسلحة في كل الحروب أعني السلاح العنيف والسلاح اللطيف.
فما يمكن إفساده بأقل كلفة وأقصى الخبث اللطيف (تونس) مغن عما لا يمكن إفساده إلا بأقصى الخبث العنيف. وأقصد بأقصى الخبث العنيف استعمال حمير السلفية الجهادية أو داعش التأصيل الأحمق في الشام وهو أداة السلاح العنيف. واقصد بأقصى الخبث اللطيف استعمال حمير السلفية اليسارية والقومية وهي داعش التحديث الأحمق في تونس وهو أداة السلاح اللطيف.
ومال الانظمة العميلة يجمع بين الوجهين لأنه يمول السلاح العنيف والسلاح اللطيف وما تمثله مليشيات السيف في الأول تمثله مليشيات القلم في الثاني. وكلا السلاحين مستعملان في الجبهتين مع غلبة الثاني في تونس وغلبة الأول في الشام. وتوجد جبهة موحدة للجبهتين يمثلها الإعلام والثقافة المأجورين اللذين يؤديان دور الطبالين في الحروب سواء كانت لطيفة أو عنيفة.
ولنتكلم الآن على سوريا. مما يزال له سذاجة التصديق أن بشار يحكم في شيء في سوريا بما في ذلك حتى أخص خصائص حياته الاسرية إذ حتى لو تصورنا الروس لا يصلون إلى هذا الحد فإن الإيران يتجاوزونه. لكن مع ذلك الكل يحتاج لبقائه كما يحتاج الأمران المجرمان لما يسمى بالشرعية في اليمن.
فروسيا وإيران حتى حزب الشيطان كلهم يدعون أنهم في سوريا بطلب من “سلطة شرعية” والجميع يعلم أن بشار لا سلطة له ولا شرعية وكذلك رئيس اليمن والفرق الوحيد أن الأول فعلا هو المسؤول على كل ما حدث لسوريا والثاني مسكين هو ضحية حمق الاميرين اللذين ظنا التخلص من الثورة بالحوثي والطالح.

وقد غرني أمران بدوا لي ذوي مصداقية فأيدت حرب اليمن فضلا عن كوني ما زلت أومن بضرورة الـحرب ضد التدخل الإيراني لو كان أصحابها صادقين وليسوا هم من مكن لها بتفضيل محاربة ما يسمونه بالإسلام السياسي والثورة اليمنية على محاربة إيران التي مكنوا لذراعها التي هي نسخة من حزب الشيطان في لبنان. والأمران حدثا في السعودية.
الأول هو ما نسب إلى الملك الحالي من أقوال معارضة لما حصل في مصر ومن ثم لسياسة الملك السابق عليه وهو ربما المجرم الأول في مسألة اليمن ومصر مثله مثل الذي قبله في مسألة عشرية الجزائر الأليمة. وقد كانت منه حيلة خبيثة لاكتشاف المتعاطفين مع الثورة في بلاده وهم من بدأ بتصفيتهم لما ظهرت حقيقته التي أخفاها بهذه الحيلة. وكان مكرا شريرا قضى عليه مكر الله الخير كما نرى الآن.
والثاني هو شهادة كتابات المرحوم خاشقجي وكتاب عالم الاجتماع السعودي الشهير. فالأول كنت أعتبره صحفيا والثاني عالما كلاهما كان عندي ذا مصداقية لـمعرفتي بالثاني ولسمعة الأول الذي لا أعرفه شخصيا. فاطمأنت لرأييهما مع دافع ذاتي باطني يجعلني أعتبر الحرب على إيران وأذيالها ضرورة وجودية للعرب لأنها أعدى من كل ما عرفت الأمة إذ هي تخرب من الداخل وحالفت كل أعدائها من الخارج حتى قبل أن تصبح للفرس دولة بعد أن أزالها الفتح.
فحاولت مساعدة الجنرالات الاغبياء الذين قادوا الحرب وكنت أتصور أن ما حصل من قيادة غبية علته الغباء فحسب وليس ما حدث كان خطة إيرانية كلفت بها الإمارات للإطاحة بالسعودية بسبب ما لأميرها من خبث وتأثير على أحمق السعودية. الحرب في الحقيقة لم تكن ضد الحوثي بل ضد السعودية.

عجبت أولا من الاستراتيجية السياسية الدبلوماسية في قيادة الحرب ومن الاستراتيجية الحربية العسكرية في إنجاز المهام. فحاولت التنبيه إلى أن الحرب مضاعفة ولها هدفان. حرب لها شرعية دولية ينبغي استغلالها لحرب ليس للتدخل في اليمن بمقتضاه شرعية دولية:
1. الحرب الأولى لتحرير اليمن من انقلاب الحوثي وصالح.
2. الحرب الثانية لمنع تكون حزب الشيطان على الحدود السعودية.
ولما كانت الأولى طويلة نظرا لجغرافية اليمن وانثروبولوجيته القبلية فإن شرعيتها ستتآكل بسبب طولها ومن ثم فالتسريع في الحسم في الحرب الثانية ضروري لأنها ستصبح مستحيلة بسبب هذا التآكل. وكان إذن ينبغي أن تكون هذه الحرب خاطفة وأن تبدأ بصعدة والعاصمة قبل أي مكان آخر.
لكن عدم فهم هذه المعطيات جعل ما يحدث في اليمن مثله مثل كل ما حدث في العراق وما يحدث في سوريا ولبنان فضلا عما يكاد يحدث في غيرهما مما هم في وضع السيطرة الإيرانية فيه واضحة حتى وإن لم تعلن بعد هو انتصارات إيرانية بتمويل وبأيد عربيين بعضها واع بما يفعل ويفعله بهذا القصد وبعضها علته الغباء وعمى البصيرة.

الفصل الثاني
لما سمعت ضابطا أحمق يتكلم على الحرب وهو غير المجرم الذي شارك في اغتيال خاشقجي الذي لا يقل عنه حمقا عجبت كيف يمكن أن تقاد الحرب بالصورة التي وصفها. فلم أتمالك وكتتب مشيرا بأن اعتبار الحرب مضاعفة يقتضي استراتيجية مختلفة بين المتعلقة بالقضاء على تكون حزب الشيطان على الحدود السعوية المتعلقة بالشرعية.
فإذا كانت حرب الحدود السعودية ومنع تكوين حزب الشيطان في خاصرتها حربا بلتز فإن الثانية ستكون طويلة ومن ثم فلا حاجة للتدخل القوي فيها بل الشرعية والمقاومة كافيان بشرط المدد التقني والمالي.
ويكفي التعامل مع شيوخ القبائل واحتلال النقاط الجغرافية التي تحول دون اللوجيستك داخليا (منع حركة المدد) وخارجيا (منع دخول سلاح إيران وسند مليشياتها العربية).
ولما لم أكن قد فهمت أن قلب الترتيب بين الحربين كان مقصودا من الإمارات لإغراق السعودية خدمة لإيران فإني لم أفهم كيف يمكن لجيش أن يحارب عدوا بالجري وراءه أي باتباعه في تنقله من الشمال إلى الجنوب بدل قطع رأس الافعى في الشمال أي في العاصمة وصعدة. إذن الخطة كانت إغراق السعودية.

وبعد ثلاث أو أربع محاولات يئست من الكتابة في الموضوع وخاصة بعد أن فهمت أن الملك الجديد كان يكذب علينا وأنه في الحقيقة أفسد من سابقه وإلا لما قبل بأن يسمى ابنه الأحمق وليا للعهد إذ بذلك هو قد خان السعودية قبل أي بلد عربي آخر. وإذا بقي هذا الأحمق فهو سيكون آخر حاكم في بلد الحرمين من آل سعود إذ هو سينتهي بتسليمهما لحماته كما حاول تسليم القدس.
ولما اكتمل اغراق السعودية في حرب عديمة القيادة والاستراتيجية ووقع الأمير الأحمق في عملية اغتيال خاشقجي تصور أنه يمكن أن يبيع اليمن مقابل ترضية لن يقبلها منه أحد لأن اليمنيين ليسوا أقل حرصا من الفلسطينيين الذين يحولون دون صفقة القرن. لكن هل الشرعية اليمنية لها الشجاعة للعود إلى اليمن قيادة المقاومة؟
إذا لم يفعلوا لأنهم استلذوا الإقامة الجبرية فإن اليمن سيصبح مثل لبنان مجرد رأي جسر إيرانية لتحقيق حلم استرداد امبراطورية فارس في إقليم صار عربه اعرابا فاقدين للطموح التاريخ بعد أن نكصوا إلى الاقتتال القبلي الذي أخرجهم منه الإسلام. كلام الأغبياء على لبرلة وعلمنة قبلية كيف لا تعجب؟
تبين أنهم دفعوا الحوثيين وبعض القبائل لإشعال حرب أهلية وأوعزوا لصالح بالحلف معهم ومدهم بالسلاح وحرسه المزعوم جمهوريا حتى يقضوا على الثورة والإصلاح متوهمين الحوثيين أغبياء يقبلون بهذه لو لم يكن لهم هم بدورهم خطة للإفطار بصالح وجماعته قبل أن يتغدى بهم. فكان ما كان.
لكن من الحمق أن تخوض حربا من هذا النوع بالمرتزقة وبالمشورة الأمريكية. فالمرتزق هدفه أن يتجنب الموت وإلا فلا معنى لارتزاقه بالحرب ومن ثم فهو يطيلها بقصد مثله مثل وسطاء الامم المتحدة فهو يطيل الخلاف ليبقى وسيطا. ومن ثم فلم يكن بالوسع تعطيل اللوجيستيك ولم يكن قصدهم استعادة الشرعية.
ولما كان الحوثيون ومستشاروهم من حزب الشيطان وإيران يبحثون عن تأسيس حزب الشيطان اليمني ليكون شوكة دائمة في خصر السعودية وكانت الإمارات تريد ذلك أيضا فإن الخطة آلت إلى ما رأينا. فما حدث في ما يمرر بالحنان على اليمنيين هو تحقيق نصر ساحق لإيران دون أن يستفيد أمير السعودية الأحمق لأن ما لطخ به وجهه لن يمحي حتى لو أذاب بدنه إذابته لبدن الشهيد خاشقجي.

أطلت في الكلام على اليمن ليس بقصد نصح الثورة اليمنية بل لأن ذلك هو العلامة الواضحة على ما كان خفيا في مأساة سوريا التي هي نظير تونس استعمالا لداعش التأصيل المزعوم في سوريا ولداعش التحديث المزعوم في تونس. وليبيا تجمع بين الداعشين حيث إن حفتر هو في آن أداة الداعشين. واشك أن القراء قد يعجبون مما يتصورونه تعقيدا لأنه كشف عن البنية الخفية للاستراتيجية التي تتألف من ثلاثة مستويات:
1. الثورة المضادة أداة مباشرة
2. الذراعان أداة غير مباشرة
3. المحرك الفعلي للاستراتيجية التي تهدف لمنع تجاوز نتائج سايكس بيكو لأهل الإقليم واستئناف دور الأمة من مركزها بل وتعميق هذه النتائج بالمزيد من المزيد من التفتيت باستعمال العرقية والطائفية: ذلك هو الهدف الاستراتيجي الذي يمكن من اكتشاف وحدة الأحداث الجارية والتي يفسدها التحليل الذي يفصل بين تجلياتها في الإقليم كله.
لذلك فكل من يحاول أن يفسر ما يجري في أي قطر من أقطار اقليمنا على عدة بحثا عن التفسير بأحوال نفس القيادات والقوى السياسية وكأنهم ذوو سيادة فعلية فتنسب أفعالهم إليهم يقع في خطأ جسيم يحول دونه ورؤية الاستراتيجية الواحدة ليس توهما مني بل هي بينة في مثل ما حاولت ضربه من أمثلة.
ولعل مفهوم “داعش” التأصيل الذي برز دوره في سوريا خاصة ومفهوم “داعش التحديث الذي برز دوره في تونس خاصة من ضرورة التحليل وهو عند التعمق فيه حقيقة فعلية.
والأكثر من ذلك فكلا الداعشين يساعد الثاني عند الحاجة فيستعمل خطة الإرهاب العنيف في تونس استعمال خطة الإرهاب اللطيف في سوريا.
والأمر أبين في سوريا منه في تونس: فما يقوده العلمانيون الأكراد في سوريا يقوده بالتناظر العكسي “الشعانبيون” في تونس مساعدة من الأولين لداعش التأصيل في سوريا رغم ما يبدو من حرب عنيفة بينهما ومساعدة من الثانين لداعش التحديث في تونس رغم ما يبدو من حرب لطيفة بينهما: والمايسترو أمريكا بمافياتها في المحمية.

وإذن فيمكن تطبيق ما وصفنا في اليمن على ما جرى في سوريا ويجري في تونس: أنظمة الثورة المضادة استعملوا الداعشيْن استعمال الحوثيين ضد الثورة فيهما كما في اليمن. وأوهموا الثورة بأنهم أصدقاءها حتى يخترقوها -وهو أمر تجنبه الإصلاح في اليمن-فكانت النتيجة ما نري بالعين المجردة في سوريا.
وهم الآن وصلوا في تونس إلى لحظة الحسم: يوهمون الحلف الجديد أنهم مستعدون لمساعدته -من هنا التزاور الاخير ودعوة رئيس الحكومة للسعودية-لكن العمل قائم على قدم وساق لإيقاع تونس في فوضى باسم المطالب الاجتماعية لتحقيق دور داعش التحديث في تخريب التجربة وإيقاف الانتقال.
وهذا ما أعنيه بالشق الثاني من الخبث: فالخبث اللطيف كاف في تونس بخلاف سوريا. وهو كاف ليس بذاته فحسب بل لأن استعمال الاول ربما قد يدفع بأوروبا وبالجزائر للتدخل المباشر وهو ما يريدون تجنبه لأنه عقد المؤامرة على ليبيا وأطال عمرها ويكاد يفشلها بسبب القرب من أوروبا ومصالحها.

وحتى لا أطيل فلأكتفي بكلمات سريعات في مسألة الصحراء الغربية: ما يوجد من تنافس بين الجزائر والمغرب فيها ليس جزائريا ولا مغربيا لأن النظامين لو كانا بحق سيدين فعلا ويفكران بمنطق المصالح السياسية حتى الآجل منها ناهيك عن العاجل لحسمت المسألة من البداية ولما انتظرت إلى الآن.
المشكل وما فيه يمكن فهمه مما برز منها في الغاية: فالجزائر والمغرب صارا مضطرين لإرضاء يهود العالم وأمريكا حتى يبقى المشكل عالقا فلا يحل أبدا تماما كما حدث في الحرب بين العراق وإيران. كلما رأوا أحدهما يكاد يربح الحرب ساعدوا الثاني حتى تبقى الحرب ملتهبة فينهار الأثنان معا.
وهذا كاف حول المسألة لئلا يظن أني أتدخل في خصوصيات الجارين أو أني اتهمهما بعدم السيادة علما وأنه لا يوجد قطر عربي واحد له سيادة فما يسمونه دولا هو محميات ليس حتى للقوى الدولية بل لذراعيهما أي لإيران وإسرائيل اللذين صارا حاميين للعملاء لنخب العرب الخمسة.
فالنخب السياسية العربية حكما ومعارضة والنخب المعرفية والنخب الاقتصادية والنخب الفنية والنخب الرؤيوية كلها بأقدار متفاوتة مخترقة من هذين الذراعين وتعتبر “الشرعية” في العملين القولي والفعلي وحتى في السمعة سواء كانت تأصيلا أو تحديثا تستمد من الذراعين وهي تبعية بارزة للعيان.
وطبعا ما كانت هذه التبعية تمر بوساطة إيران للبعض وإسرائيل للبعض الآخر ولهما معا لبعض ثالث لو لم يكن هذان متحالفين في حدود ما تقتضيه الاستراتيجية الكبرى التي وصفت والتي حتى بوتين نفسه ليس إلا من أدواتها إذ إن روسيا ليس لها قوة كافية لاستراتيجية كونية تمنع دور الأمة المستقبلي.
ورمز هذه الاستراتيجية وعلامتها القاطعة هو ما يحصل في العراق وفي سوريا خاصة. لكن نفس العلامة نجدها في ما يحصل في الخليج كما تبينه الأزمة الحالية وكما تبينه في المغرب العربية قضية الصحراء. فاحتلال العراق إيراني أمريكي واضح واحتلال سوريا إيراني روسي إسرائيلي واضح وقس عليهما البقية.
ووجود أمريكا في سوريا لم يعد بحاجة للتوضيح ومن ثم فالاحتلال الروسي الإيراني الإسرائيلي تشاركهم فيه أمريكا وتباركه والعملاء العرب يمولون كل شيء لأنهم ليسوا محلوبين مباشرة فحسب بل هم محلوبون أيضا بتمويل عمليات حالبيهم في الإقليم. ولذلك فأزمة الخليج هي العلاقة الابرز للاستراتيجية.

فيمكن ترجمة الأزمة على النحو التالي: كيف يمكن أن يصبح عدوان بعض أغنياء العرب على بعضهم الآخر فرصة لحلبهما معا وإطالة الخلاف بينهم إلى غير غاية حتى يتحقق هدفان:
1. كلاهما يصبح لا هم له إلا القوادة بالآخر وتمويل مبيضي صورته في الغرب
2. كلاهما يجري لخدمة عمليات الأعداء في دار الإسلام.
والخلاف الذي بدأ بالعدوان يحقق نفس الغاية: فالعدوان كان هدفه جمع الثروتين في يد تابعة لتحلب كلها والخلاف يجعل ذلك الحلب يتم بما يحدثه من تنافس بين الاعداء على ترضية نفس العدو المشترك الذي يستفيد من العداوة بينهما حتى يحقق نفس الحلب الكلي بمبادرة منهما في ما يصيبهم من عمى الحرب الأهلية بينهم.
سيقول بعض أصدقائي: ما لك يا ابا يعرب لم تبق لنفسك صديقا؟ إذا أنت اتهمت الجميع وسويت بينهم فمن في كونهم أدوات في محميات فمن يا ترى منهم سيعتبرك من صفه؟ وجوابي يسير: أولا لست بحاجة لأن اصطف فمن لا يصدق أنه يمكن لأمرئ أن يكون محايدا سيصنفونني ويعتبروني أجيرا عند أحد الصفين.
ذلك أنهم -وقبلهم قالها أعرف الناس بالطبيعة البشرية قصدت ابن خلدون- لا أحد يمكن أن يكون من صف ما يؤمن بأنه الحقيقة التي لا يمكن أن تكون مأجورة إلا وخسر “الجاه” الذي هو بيد هذه المستويات الثلاثة التي ذكرتها:
1. النخب الادوات الخمسة
2. الذراعان
3. أصحاب الاستراتيجية العالمية التي وصفت.
ولا يمكن لمن يريد أن يشرح استراتيجية أعداء الأمة والساعين لمنعها من استئناف دورها أن يجد حتى لو سعى من يمكن أن يعتبره فعلا من صفه. ذلك أن الأمة اليوم يكاد يكون صفها خاليا من المؤمنين به وخاصة بين الكاريكاتورين التأصيلي والتحديثي. فكلاهما يؤمن بكاريكاتور من الأصالة والحداثة.
ولذلك فأنا راض المصير الذي وصفه ابن خلدون واتهمه بالكبرياء التي تؤدي إلى النبذ أو الانتباذ. لكنه أضاف وهو ما ينساه المتعجبون من هذا الموقف أن هؤلاء المنبوذون وإن عاب عليهم الانتباذ الذاتي بسبب الكبرياء هو علامة مآل الحقبة التي عاشوا فيها وهي حقبة اندثار المرض الذي عارضوه.
فعنده أن المنتبذين في طلب الحقيقة بانفصالهم عن مصدر الجاه -أي النخب المتنفذة وخاصة في الحكم والاقتصاد-يصبحون علامة على أن الدول صارت بيد السفلة وأنها بسبب ذلك تصبح على النحو الذي نرى عليه المحميات العربية: كلها مستعمرات ومحميات بدليل امتلائها بقواعد تخدم اعداء الامة.

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock