مقالات

الشاهد: ولد ليحكم

نور الدين العلوي

استمعنا إلى اللقاء الصحفي ليوسف الشاهد رئيس الحكومة التونسية واستمتعنا بقدر كبير من السخرية الفايسبوكية من شخصه من طريقته في الكلام ومن جمله المبتورة ومن نغمة الثقة المفرطة التي تخفي شخصية مغرورة وواثقة من نفسها ثم صرفنا الفايس بوك إلى مشاغل أقل أهمية ولكن الحقيقة ظلت عارية أمام ناظرنا.
لقد جاء يوسف الشاهد ليحكم كأنما ليحكم أو لعله ولد ليكون حاكما فالأمر صار بيّنا أو أعاد التاريخ تأكيد قوانينه.
هذا البلد لا يحكمه إلا من ولد في بيئة سلطة أما البيئة المولدة للثورات فمهمتها رج النظام من أطرافه ليعود المولودون للسلطة ليكونوا عليه حكاما.
حقيقة فاجعة لكن يمكن التدليل عليها بالخطاب نفسه. لقد أعلن الرجل انتماءه لأخواله. وأخواله حكموا البلد من داخل النظام ومن خارجه كأنما كانوا يقتسمون الغنيمة بشق في الحكم وآخر في المعارضة أما الأغراب فيظلون أغرابا حتى ثورة أخرى تعيد تأكيد نفس القاعدة.
يوجد تقسيم عمل تاريخي العامة تثور فيسقطونالنظام ثم يقفز الحضر فيحكمون. لماذا؟ وكيف هذه بعض الأفكار لا إجابة شافية.

خالي حسيب بن عمار؟

رمى الشاهد الجملة في أثناء المقابلة الصحفية مدافعا بها عن خلفيته السياسية الراهنة ولكن معنى الجملة يتجاوز سطحها إلى عمق تاريخي. وفيها معنيان:

أولهما التفاخر على غريمه رئيس الدولة وثانيها تكريس حق في الحكم بالميراث لا بالكفاءة.

أما المعنى الأول فهو أن حسيب بن عمار هو قائد مجموعة من منتسبي حزب الدستور الذين خرجوا عليه في عام 1970 ضمن ما سمي بمجموعة الأحرار والتي كانت طالبت بالحريات السياسية زمن غطرسة بورقيبة وهيمنته على مفاصل الدولة والمجتمع وزرع بذور الحكم الجهوي (الساحل ضد العاصمة).

كان حسيب بن عمار المنتمي إلى عائلة ارستقراطية حضرية عاشت في قصور بايات تونس أعلى مقاما ضمن مجموعة الأحرار من الباجي قائد السبسي الذي خرج مع المجموعة ثم ارتد إلى حزب الدستور لما منح وزارة الخارجية في حكومة محمد مزالي سنة 1980.

وخان أصحابه. حسيب بن عمار هو أيضا مؤسس ركن للرابطة التونسية لحقوق الإنسان التي ظل رئيسها ثم رئيسها الشرفي حتى اعتزاله السياسة زمن بن علي ولم يقبل أن يكون تابعا لشخص من غير أصول حضرية. وتذكير الشاهد بأخواله يقرأ كرسالة للباجي أنا سليل من لا يغيرون مواقفهم حسب مصالحهم الشخصية.

المعني الثاني رسالة إلى الشعب التونسي تحمل (حسب رغبة الشاهد) تطمينا على المسار الديمقراطي كما لو أن الثقة التي حازها حسيب بن عمار تورث في غير زمانها للحفيد البعيد. هذا الانتماء الذي ورد بصيغة مليئة بالعُجب والغرور هو الذي يجب التوقف عنده.

تلك الثقة لا يمكن توريثها لأنها ليست خاصية بيولوجية تنتقل بالولادة بل درس ديمقراطي عميق. يمر بمعاناة لم يعشها الشاهد ولا شيء يدل على أنه قد ورثها فعلا.

إذ يكفي رؤيته وقد أعاد إجاباته مكتوبة على مقابلة مسجلة مرت بجانب القضايا الحقيقة لنعرف أن الرجل يصدر عن حكم مسبق وبات ولم يطور وعيه التاريخي بمنطق الثورة. هذا المعنى الكامن يظل في حاجة إلى تجلية. وهنا نبتعد عن الشاهد ومراجعه قليلا.

السلطة في تونس ميراث حضري

خطاب الشاهد المنشغل ظاهرا بحالة التونسيين الفقراء يرغب في حكمهم معتمدا على رصيد آخر غير برامجه.

ميراث الجدود أو الأخوال الذي يترجم عمليا كحق في الحكم باعتبار النشأة. لا باعتبار النضال. هنا نتذكر برغمنا الصراع التاريخي في تونس بين الحضر (سكان العاصمة وبالتحديد ضاحية المرسى) وسكان الدواخل المفقرين.

لقد تذكر كثيرون أيام الثورة ثورة على بن غذاهم (1864) ومصيرها بعد أن احتال مصطفي خزن دار (وزير مالية سيدنا الباي) على الثوار واستدرج قائدهم بن غذاهم وسجنه وقتله تحت التعذيب وفكك الثورة، جرى شيء مماثل لثورة 2011 فبعد اعتصامات أبناء الدواخل (العربان بلغة المرسى) أفاق الثوار على الباجي قائد السبسي (سليل حضر العاصمة) يحكمهم ويخطط لهم مصير ثورتهم ويفرز بين شهدائهم فيمنح الشهادة على هواه كأنه بابا المسيح.

تجاوز الناس أو تنازلوا عن مسائل الثأر الرمزي والطمع في المشاركة ورضوا بالحد الأدنى في انتظار أن يؤدي الصندوق إلى إتمام مطالب الثورة (وكنت أحد مروجي هذا الأمل/الوهم) حتى سمعت الشاهد يبرر حكمه بنسبه لا ببرنامجه فعادت خيبة الثورة إلى سطح المشاعر.

ونوسع الرؤية قليلا عبر قراءة خطاب رئيس الحكومة في المشهد العام لنجد أن الثورة لم تدخل بيوتات الحضر إلا كذريعة لاستعادة سلطة أوشكت أن يضيعها بن علي اللص وأصهاره (الخنابة). والخناب أحقر من اللص.

الخطاب ضمن المشهد القادم

يرتب يوسف الشاهد المشهد ضمن هذه الرؤية (السلطة ميراث حضري جهوي). نراه الآن يقرب رجال المال من الحضر (أسرة المبروك) وينتظر رفدها الإنتخابي.

ونراه يقرب رجال المال من الساحل ليوزع بعض الغنائم ويسكت جهة تعتبر بدورها أنها ولدت لتحكم تونس. وضمن هذا نراه يرتب مكان حزب النهضة كسند صامت يرضى بالقليل تفضلا من يوسف الشاهد غير الاستئصالي كما كان خاله حسيب بن عمار.

أما خارج توليفة الشاهد فيوجد استئصاليون لذلك على النهضة أن تظل في مكان الإسناد ولا بأس إن كانت كتلتها النيابية غير معادلة لوزنها في الحكومة فالمهم كما يرى الشاهد أن تسنده وتهدأ الشارع (فهي الوحيدة التي يمكنها تحريكه).

كانت هناك لغة مَنٍّ مؤذية في خطاب الشاهد أو ما سميته سابقا الاستئصال الناعم. منطقة (كونوا ورائي ولا تطلبوا كثيرا وإلا فإن الغول موجود في الجوار) وهنا إلتقى الشاهد بالباجي بوعي كامل.

حكم الباجي بالنهضة بين 2014-2018 بمنطق كونوا في خلفية المشهد وتوضعوا لي لأني أملك أن أقلب الطاولة ونعود إلى سياسة بن علي وبورقيبة. وأعطت النهضة من نفسها حتى مد الباجي رجله لتوريث الحكم في بيته طبقا لعقله الحضري صاحب الحق المطلق في الحكم.

حيث لأبناء العربان (النهضة) لحم مدافع ليس أكثر. وهكذا يتجلى أن الإنتساب إلى حسيب بن عمار هو نفس منطق الباجي ولم يختلف الرجلان إلا في تزيين الخطاب.

فالباجي أقدر على حشر الشعر الجاهلي وآيات من القرآن في الخطاب بينما يقف الشاهد عاجزا أمام اللغة القديمة فيغطي بأرقام غير صحيحة.

هل ستستكين النهضة للشاهد بعد هذا كما استكانت للباجي؟

إني لا أرى لها خيارات كثيرة قد كسرت خيارتها بالخوف الكسول أو بالعجز وعودت من يحكم أنها حزب مطيع وراض بالقليل. وخيار الحكم عندها مؤجل فالمهم هو البقاء على قيد الحياة.

ومادامت تتصرف على هذا الأساس فهي تكشف استبطانها لمنطق أن الحكم لا يكون إلا في أهل الحاضرة ولا بأس للعربان أن يكتفوا بفضلة الإناء.

هكذا كان منذ استقر الحكم في الحاضرة وهكذا يكون حتى يأتي الجيل الذي ينقض هذه الأطروحة فيبدأ بتجريد العاصمة وحضرها من مكانتها الاعتبارية المزيفة. متى يكون ذلك؟ الإجابة ما تزال في منطقة الرواية الرومانسية.

أما في الواقع فيوسف الشاهد يملك أن يفعل بالنهضة ما يشاء بعد 2019. كما فعل خاله حسيب بن عمار في انتخابات 1981.

لما صوت جماعة الاتجاه الإسلامي لجماعة (الديمقراطيين الاشتراكيين ورثة مجموعة الأحرار) وبقوا خارج إحتمالات المشاركة الفعلية.

صفحات كراس التاريخ التونسي متطابقة إلا إذا تم تقطيع الكراس وفتح كراس جديد. هذا عمق خطاب الشاهد قبل انطلاق الحملة الإنتخابية في 2019.

“عربي21”

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock