مقالات

حقيقة الموت ووهم الحياة !

فتحي الشوك

عديدة هي المواقف الّتي نشهدها كأطبّاء ونحن ننسحب بصمت أمام وقع الموت، بعد استنفاذ كلّ جهود التدخّل والإنعاش لنقرّ في النّهاية بعجزنا ونعترف بحقيقة لا مفرّ منها. وكثيرة هي شهادات الوفاة الّتي نصدرها عند معاينة وفاة أحدهم لنضمّنها تلك العبارات بأنّ الوفاة حقيقية ودائمة وغير مسترابة، لا تستدعي التشريح أو عكس ذلك. ومن منّا من لم يشهد موتا أو لم يذق حرقة فقدان صديق أو عزيز؟ هي ظاهرة لم تستثن أحدا تحدث فينا صدمة آنية لنتجاهلها بالانخراط مجدّدا في صخب حياة ابتلعتنا. فما الموت وما الحياة؟ وهل يمكننا معرفة حقيقة أحدهما بمعزل عن الآخر؟

تعريف الموت:
يعرّف الموت علميّا بأنّه توقّف الكائنات الحيّة نهائيا عن القيام بأيّ نشاط وظيفي حيوي كالتنفّس والأكل والشرب والحركة والتفكير ويمكن تمييز تعريفين طبّيين له: الموت السّريري وهو حالة الانعدام الفجائي لدوران الدّم في الأوعية الدّموية مع الانقطاع التّام عن التنفّس إلى جانب غياب الوعي، والموت الدّماغي أو البيولوجي وهو حالة انعدام وظائف الجهاز العصبي (الدّماغ وجذعه والنّخاع الشّوكي) بشكل كامل ونهائي.

يتطلّب الموت معاينة وتشخيصا ومن علاماته: شخوص البصر، شحوب البشرة، غياب للنّبض والتنفّس والحركة، اتّساع لحدقتي العينين، ارتخاء للجسم في مرحلة أولى مع برودة تدريجية تكتسحه وتصلّب الجثّة ثمّ تحلّلها في مرحلة متأخّرة وهو ما يسمح بتحديد زمن الوفاة ومن خلال المعاينة التعرّف على أسبابها وطلب التشريح إن كانت مسترابة أو تحوم حولها شكوك.

أمّا التّعريف الدّيني للموت فهو خروج الرّوح من جسم الإنسان للانتقال إلى مرحلة الحياة الأبدية وأغلب الأديان تشترك في ذلك معتبرة الموت بابا للولوج في حياة أخرى بعد مرحلة مؤقّتة من الحياة الدّنيا هي مجرّد ابتلاء وامتحان. وكان الموت موضوعا شغل الإنسان منذ وجوده ليحتلّ حيّزا مهمّا في مختلف الثّقافات والحضارات.

حتميّة الموت:
كثيرة هي الوجوه الّتي كانت بيننا ورحلت دون رجعة وكثيرة هي الأسماء الّتي نقرأها في صفحات النّعي والتّأبين وعديدة هي الجنائز الّتي مشينا فيها أو وقفنا إجلالا لمرورها وكم هي منتشرة أخبار ومشاهد الموت الّتي نسمعها ونشاهدها كلّ يوم، بيد أنّ إحساسنا بأنّنا معنيّون به أو قد يمسّنا لا يماثل طرديّا حجم شيوع الظّاهرة فغالبا لا نستشعر حقيقة وقعه إلاّ حين نصدم في حبيب أو قريب كان يحتلّ مساحة هامّة في حياتنا شغرت برحيله واستحال علينا تعويضه ، كما أنّنا قد لا نشعر بأنّه قريب منّا إلّا حين التعرّض لأزمات صحّية حادّة أو لحادث خطير مع أنّنا نتعايش مع الموت في كلّ لحظة نعيش فيها.

هي حقيقة واقعة لا محالة تصدمنا في نهاية طريق قد يطول أو يقصر بسبب أودون سبب وفي بعض الأحيان بما لم يكن في الحسبان، وهي نهاية حتميّة لأيّ كان مهما طال به العمر أو اتّخذ له من التّحصينات أو اعتقد واهما أنّ الدّنيا منحته صكّ أمان. مات خير من كان ومن هو لقصّة الوجود عنوان فكيف لا لبقيّة الأنام؟ “إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ” (سورة الزمر، الآية 30).

الموت ليس بزائر غريب:
قد يبدو الموت وكأنّه زائر غريب يطرق أبوابنا فجأة ليختطف أحدنا مع أنّه ليس بالوافد وليس بالغريب فهو يعرفنا بقدر جهلنا به أو تجاهلنا له. فنحن نعيش ظاهرة الموت في كلّ لحظة وحين، فكلّ خلايانا تحمل كتاب موتها المبرمج فتموت الملايين منها لتبرز ملايين أخرى في توازن بديع بين نظامي الموت والحياة وعمليّات الهدم والبناء وقد يختلّ التّوازن وينهار أحد النّظامين لينتصر الآخر. “يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ۚ وَكَذَٰلِكَ تُخْرَجُونَ” (سورة الروم، الآية 19).

أمّا أجسادنا فهي منتظمة بذاتها في تنفّسها وخفقان القلب وكلّ العمليات الأيضية والحيويّة وقد يختلّ نظامها بتدخّلنا الفجّ وفي حالات أخرى قد تتعطّل الوظيفة بلا سابق إنذار، تلك الأجساد الّتي تستنزف وتجهد في النّهار فتحتاج إلى قسط من الرّاحة في اللّيل ليخمد الشّعور والإدراك ويهيمن اللاّشعور فتتحرّر الأرواح وتعرج متحدّية المكان والزّمان. هي موتتنا الصّغرى اليومية المتواترة مع حياتنا الصّغرى في عمليّة تدرّب واستحضار لتلك الكبرى وكأنّها تنذرنا بأنّ حياتنا الدّنيا الفانية ليست سوى جسر عبور نحو أخرى خالدة. “اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا ۖ فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَىٰ عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَىٰ إِلَىٰ أَجَلٍ مُسَمًّى ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ” (سورة الزمر، الآية 42).

ثقافة الحياة وثقافة الموت:
يتلاعب بعض الدّهريين ومروّجي العدميّة والعبثيّة بالمفاهيم ليضفوا كلّ المعاني الجميلة الجذّابة على الحياة ،مزيّفين إيّاها ومتلاعبين بوعي الأفراد بحتميّة النّهاية، عازفين على وتر غريزة حبّ البقاء ومعتبرين أنفسهم بذلك مستنيرين وحاملي لواء ثقافة الحياة في مواجهة لثقافة الموت والفناء. هو خرق متعمّد لسنن الثّنائيات، تضخيم للحياة كبالون ينفخ فيه ليتمطّط وينفجر في النّهاية.

فالحياة مهما ازداد بريقها وعظم جمالها فلن يتحقّق مقصدها إلاّ بالتنبّه لحقيقة زوالها وتغييب ذلك يسقطنا في سوء مآلها. وكأنّ الحياة حلم لا تتجاوز مدّتها تلك الثّواني الّتي نستغرقها في الحلم، وكأنّ الموت يوقظنا من ذاك الحلم لنكتشف بأنّنا لم نبلغ نهاية القصّة بل هي مجرّد البداية. إنّ التركيز الممنهج على الحياة وتجاهل الموت حوّلها إلى وهم وسراب فلا يوجد وهم نتعامل معه كأنّه حقيقة كما الحياة ولا حقيقة نتجاهلها ونتعاطى معها كأنّها وهم كما الموت.

أنّ نحبّ الحياة فذاك مفروض ومطلوب لكن دون تناسي منيّة قد تأتي دون ميعاد بمبدأ اعمل لدنياك كأنّك تعيش أبدا واعمل لآخرتك كأنّك تموت غدا. واجب علينا أن نعرف كيف نحيا ومن الواجب أيضا أن نعرف كيف نموت، فاستذكارنا واستحضارنا لحقيقة الموت يجعلنا ضرورة نستوعب حقيقة الحياة لتفادي الزلّات والمطبّات ولنكن على استعداد لرحيل أكيد هو آت زادنا فيه ما جمعناه من حسنات.

اترك رد

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock