مقالات

التمليك الثقافي لقيم الثورة… الحلقة المفقودة في مسار الإنتقال 2/2

بشير ذياب

فالثقافة التي كان يفترض أن تكون لاحقة للثورة هي ثقافة الديمقراطية، وبناء ثقافة ما، يتطلب بنية تحتية تهيء لإنغراسها، أولها الإرادة السياسية، وثانيها التسويق الإعلامي وثالثها رعاية حركة ثقافية وتربوية شاملة تطلق العنان للإبداع الثقافي والتنوع الإيجابي مع حماية الذوق العام من الإنحدار الأخلاقي الذي تعتبر التربية والثقافة والإعلام مداخله الرسمية، إلا أن هذه المنظومة كانت متعثرة وغياب الإرادة السياسية لحكومات مابعد الثورة لتأطير قطاعات التربية والثقافة والإعلام، ونجاح بارونات الفساد السياسي والمالي في تجيير قطاع الإعلام الموروث عن فترة الإستبداد في مجمله وعدم السعي أصلا لبناء منظومة ثقافية وتربوية متطورة تخدم أهداف ثقافة الثورة، والغياب شبه الكلي ميدانيا لمنظمات المجتمع المدني السابقة للثورة أو اللاحقة لها (تؤمن بالعمل المدني النزيه والمتحضر بعيدا عن الصراع الإيديولوجي) كلها عوامل ساهمت بمقادير مختلفة في القصور في الترويج للثقافة الديمقراطية التي تمثل القلب النابض لحراك مجتمع الثورة.

المجتمعات المتحضرة لم تبن حضارتها من لا شيء، وكما يقول المثل الأمريكي “لا يمكن الحصول على شيء من لا شيء” فكل طفرة حضارية وراءها ثقافة أسست لها ودعمتها، ووراءها نخبة سياسية وفكرية وثقافية رسختها وملكتها للمجتمع، ووراءها مجتمع ضحى من أجلها بجهده ووقته، غنيهم وفقيرهم، رجالهم ونساؤهم شيبهم وشبابهم، لأن التقدم لا يمكن أن يكون ذا قيمة إلا إذا تقاسمه الجميع (جهدا يبذل وثمارا تقطف)، فالمجتمع الألماني الذي خرج من دمار الحرب العالمية الثانية مقسما لجزئين مدمرا إقتصاديا وإجتماعيا وبنية تحتية تمكن اليوم من الرجوع لقيادة قاطرة العالم المتحضر سياسيا وإقتصاديا رغم الحصار الذي فرض عليه من طرف الكبار، اليابان أيضا الذي تعرض لدمار شامل في نفس تلك الحرب هو أيضا يتحكم اليوم بالمصير الإقتصادي للعالم ولا يكاد بيت في العالم يخلو من “صنع في اليابان”.

تحدثت عن هاذين المثالين لأنهما خرجا من تحت رماد الحرب ببنية ثقافية وسياسية وتحتية مدمرة، أما نحن فإننا نخرج اليوم من تحت غبار الإستبداد السياسي كذلك ببنية تحتية سياسية وإقتصادية وثقافية وتربوية مدمرة، لكننا دمرناها بأيدينا، على إمتداد عقود طويلة، وكي لا أكون متشائما يمكن أن أقول أننا إذا توفرت الإرادة لدى نخبنا عموما سياسيون كانوا أو إعلاميون أو مثقفون أو مربون يمكن أن نحقق ما حققه الشعب الألماني، أو الشعب الياباني، إذا أحسنا التسويق لثقافة الديمقراطية، بكل عناوينها المضمونية لا بمجرد الشعارات الموجهة للإستهلاك السياسي كما حدث في السنوات الماضية، ولولا أن بعض الحداثيين أو المتأدلجين لهم حساسية تجاه تركيا لذكرت التجربة التركية في المقام الأول لأنها التجربة الأقرب تاريخيا والأسرع من حيث قوة الإقلاع ولطول المحاكاة والتماهي بين تجربة الزعيمين أتاتورك وبورقيبة.

ما لم يفهمه السياسيون والقادة الحزبيون هو أن فترة الإنتقال من الإستبداد إلى الديمقراطية لا يمكن أن تكون إستبدادا كما لا يمكن أن تكون ديمقراطية، بل هي مزيج من هذا وذاك، هي فترة تأهيل للمجتمع على ترسيخ السلوك الديمقراطي في حياته اليومية منذ أن يغادر بيته صباحا مرورا بوسيلة النقل إلى عمله في المصنع أو المدرسة أو في المستشفى… إلى أن يعود في المساء لا منهكا بما عاناه من مشقة المواصلات والتحرش والسلوكات الغير لائقة بل بما يظن أنه مجهود وضريبة يجب أن تدفع في سبيل النهوض بهذا الوطن الذي يجب أن يفكر في حمايته وتأمينه لأنه جزء منه، كان مريضا ويجب أن يعافى قبل أن يتعفن.

في ظل الإستبداد يفقد الإنسان قيمة المواطنة، لأن تقاسم المنافع الوطنية لا يتناسب مع الجهد المبذول من هذا الطرف أو ذاك، والفرص لا تتاح بالتساوي بين جميع المواطنين، وهو ما يقلص بصفة تدريجية الشعور بالمواطنة حتى يصبح الإنسان يشعر بالغربة داخل وطنه الأم ويفقد قيمة الإنتماء للوطن وبالتالي يفقد قيمة التضحية من أجل الوطن والمجموعة الوطنية عموما، ويصبح يرى أن الجهد الذي يبذله لا يصرف لفائدة الوطن بل لفائدة المتنفذين والمتمعشين من النظام القائم، ومن ذلك ظهرت ألفاظ وتعابير إجتماعية مثل “رزق البيليك، نعطيه قد فلوسو، أقرى ولا ما تقراش المستقبل ما ثماش، بروط جاك الشاف…” هذه الألفاظ هي في جوهرها تعبير عن عدم الشعور بالإنتماء للوطن والمنظومة الوطنية، والخروج من هذه الثقافة السلبية التي تكرست طيلة ستة عقود والتي لا تختلف كثيرا عن ثقافة الجزيرة العربية قبل الرسالة، لا يمكن الإقلاع عنها بمجرد إقلاع طائرة الرئيس بإتجاه السعودية، تلك اللحظة الصفر، التي لو أحسنت النخب السياسية والإعلامية والثقافية إستثمارها، وإستثمار ذلك الجو المفعم بالوحدة الوطنية الذي كانت لجان جماية الأحياء تعبيرا صارخا عنه لكنا اليوم تجاوزنا في إشعاعنا الإجتماعي والإقتصادي الدول النفطية، ولكن تلك اللحظة الصفر كانت بالنسبة للنخبة السياسية هي نقطة الإنطلاق للتدحرج الإيديولوجي الذي تأسست بموجبه كل اللجان الساهرة سياسيا وإعلاميا وثقافيا على توجيه بوصلة الإنتقال، ولن أطيل في التوصيف فالصورة الجيدة تغني عن طول الحديث.

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock