مقالات

إنسحاب أمريكا ما دلالته ؟ ولم هو من مكر الله الخير ؟

أبو يعرب المرزوقي

آخر ما قام به ترومب أعني الانسحاب من سوريا اعتبره بداية للانسحاب من الشرق الأوسط الكبير كله إذ يصحبه انسحاب من افغانستان كذلك وفهما عميقا لما يعتبر أولى أوليات أمريكا. ومن ثم فلست ممن يحكمون عليه بالغباء حتى وإن كان ذكاؤه أو غباؤه ليس مما يعنيني بل إني اعتبره ظاهرة تنتسب إلى مكر الله الخير لفهم الضرورة التي تقتضي وحدة اقليمنا المزدوج الإسلامي الأوروبي والتي دعوت إليها منذ أمد طويل.

والأهم من ذلك وتتمة له المكر الخير للمعمورة كلها. فأمريكا بهذه الأفعال لا تعود للإنطواء على الذات كما يتوهم الكثير بل هي تستعد لما قد يهدد دورها العالمي في المستقبل القريب وهو مضاعف كذلك: تطويرذاتها وتجديد قواها الاقتصادية والثقافية والدفاعية والاستعداد لقوة الشرق الأقصى التي تهدد منزلتها في العالم.
ولست أعتقد أنها تفر من مسؤولية حماية من كان يحتمي بها بل هي وجدت أن ما الاستراتيجية الحالية قد تجعلها عاجزة دون ذلك إذا تركت الصين مثلا تغزو ما كان مستعمرات أوروبية في افريقيا وآسيا لتوهم أصحابها بعد شبه الاستقلال الذي جعلها محميات يخترقها تهديد لحضارة ملتقى القارات الثلاث حول الأبيض المتوسط.
فالحضارة الجامعة بين ملتقى القارات الثلاث-آسيا وأفريقيا وأوروبا-أي حضارة الأديان المنزلة والفلسفة سواء كانت إسلامية أو مسيحية-وأمريكا إحدى ثمراتهما-يمكن أن تصبح مهددة نهائيا لو أن حضارة الشرق الأقصى تنجح في توليفة بين ثمراتها العلمية والتقنية مع نظامها القيمي الذاتي فتجعلها تابعة.
والدفاع عن حضارة ملتقى القارات الثلاث لم يعد ممكنا عن طريق المحيط الأطلسي التي ستبقى رد فعل على ما يجري ولا يقبل التصدي له إلا عن طريق المحيط الهادي. فالصين والهند حتى وإن تحدثت بالحصول على ثمرات هذه الحضارة العلمية والتقنية فهي لم تتبنى بحق قيمها الروحية والخلقية إلا سطحيا.
فلا يزال الإنسان في الصين والهند مثلا على ما كان عليه في حضارتهما القديمة رغم المظاهر التي تمثلها بعض نخبهما. لكن الشعوب ما تزال مؤلفة من الطبقات الثابتة -الكاست-ولا يزال فيها ما يمكن تسميته الانتوشابل أو المنبوذون بالفعل حتى وإن قل الكلام على ذلك في الخطاب المتداول.
وقد كانت هذه الخاصية من العلل التي جعلت رؤوس المال الغربية تنقل الكثير من أعمالها إليهما بسبب العبودية شبه الطبيعية التي تجعل كلفة العمل زهيدة إلى حد لا يكاد يصدق وهو ما ساعد على تنمية سريعة ظنها الكثير ناتجة عن عبقرية ذاتية لهذين الشعبين وليس لنظام القيم الميسر للعبودية.
وهذه الرؤية الوجودية تمثل أكبر تهديد للبعد الاجتماعي من الاقتصاد في الغرب إذ إن مؤسساته الاقتصادية لن تستطيع التنافس مع مؤسسات الشرق الأقصى بسبب الكلفة الاجتماعية وحقوق العمال. وهذا سيفضي إلى هرج كبير سيجعل الوضع في أوروبا بما يشبه “ثورات” الخوف على بقاء حقوق ومن تهديدها الذي بصورة تجعل المؤسسات الاقتصادية فيها مهددة بالإفلاس فيصبحوا في وضع مماثل لأوضاعنا.
ولأني لا أتصور ترومب يفعل ذلك بوعي سميت ما يحدث بالمكر الإلهي الخير. لاشك أن النخبة الأمريكية واعية بالخطر الذي يهدد مرتبة الولايات المتحدة ليس في أقليمنا المزدوج (حول الأبيض المتوسط بضفتيه) بل حتى في ما حولها أي في الأمريكتين ثم في مستعمرات الغرب السابقة أي بقية العالم. والإنسحاب الأمريكي من هذا الإقليم المزدوج سينتج عنه أحد أمرين:
1-إما أن أوروبا تعود إلى تفككها فتصبح مثلنا ونحن نرى بعض علامات ذلك في البريكست أو ما يطالب به اليمين الأوروبي والشعبوية من الفريكست وهلم جرا.
2-أو أن نخبها ستفهم الأمر الذي أحاول بيانه أي إن مصير الإقليم بطرفيه لا يمكن أن يتخلص مما يتهدده من تفكك ومن سيطرة للأقوى فيه مع تبعيته لإحدى القوتين: أمريكا أو الصين. فتتدارك الأمر على النحو الذي يفرضه العقل السليم.
ولهذه العلة ناديت بالكف عن الكلام في خرافة الصليبيات. فأوروبا لم تبق مسيحية وحتى لو عادت لها المسيحية عن طريق يمينها فإنها عاجزة حتى عن حماية نفسها لأنها وصلت إلى الإعياء الوجودي الذي له علامتان: حياة الترف وعدم الإيمان بحياة غير الحياة الدنيا وهو ما يجعل التجييش شبه مستحيل.
كما ناديت بتقديم ضرورات المستقبل على ثارات الماضي في الأقليم لعلتين كذلك. فلا يوجد بين العرب اليوم من له القدرة على طموح يضاهي طموح الماضي الإسلامي لأن الإعياء الوجودي بين نخب العرب يمكن اعتباره اعمق من الإعياء الوجودي بين النخب الأوروبية مع فقدان شروط بقاء أوروبا الحديثة التي ليس لهم منها إلا ثمرات أعمال غيرهم التي يستوردونها جاهزة لفرط الكسل والجهل.
ومعنى ذلك أن كاريكاتور التأصيل صاحب الكلام على الصليبيات وكاريكاتور التحديث صاحب الكلام على اليساريات كلاهما تجاوزه التاريخ ولم يعد بالوسع بناء المستقبل على هذين الإيديولوجيتين اللتين لم يعد بالوسع اعتمادهما في بناء شروط المستقبل والاستعداد لفكي الكماشة الأمريكية الصينية.
وإذا بقي العرب نائمين على صدغيهم -كما هم في المحميات التي يعتبرونها دولا منذ أكثر من قرن-فالانسحاب من قواعد أمريكا في الخليج ومن الحلف الاطلسي في أوروبا قد يؤدي إلى تغول الذراعين عندنا (إيران وإسرائيل) وتغول روسيا في أوروبا وهو أمر قد يجعل أمريكا تستفيد منه أيما فائدة لأن ابتعادها سيجعل المسألة من مشاغل الشرق الأقصى.
وهذا يعني أن ما كان يلهي أمريكا عن الاستعداد للنظام الجديد وترك الساحة خالية للشرق الاقصى سينقلب ويصبح ملهيا للشرق الاقصى للتفرغ أمريكا لإستعادة قوتها باسترداد صناعاتها تجديد بناها التحتية وتجديد ترسانتها وتترك المعارك في القارات الثلاث القديمة لغيرها. والصين بدأت بعد : من فوق (طريق الحرير في آسيا) ومن تحت (وما يناظرها في أفريقيا) لوصل القارتين بالأقليم المزدوج أي ملتقى القارات الثلاث.
فما يسمى باحياء طريق الحرير وما يسمى بغزو افريقيا وحتى بقية بلاد آسيا -عشت في جنوب شرقها وأعلم أن ذلك سياسة نسقية عند الصين-هو من الأدلة القاطعة أن وضعية النظام الجديد القادم سيكون ملتقى القارات الثلاث مشكل داخلي يمثل عبءا على قطب الشرق الاقصى وتنتقل أمريكا إليه عن طريق الهادي.
أمريكا والصين كلاهما يريد المبادرة في ما هو مجال الثاني الحيوي ومعنى ذلك أن امريكا بالانسحاب لا تهرب بل تنتقل من رد الفعل في مجالها الحيوي إلى الفعل في مجال الصين الحيوي. وإذا بقي اقليمنا بشقيه الشرقي والغربي في تناحر فإنه سيكون ضحية تخلف قياداته وتعلقها بمعارك الماضي. والمعلوم أن “الملعب” سيكون خاصة دار الإسلام التي هي رهان كل من يريد السيطرة على الطاقة والممرات والبحار الدافئة.
وإذا كان للأوروبيين بعض القدرة على الصمود بفضل ما لديهم من تقدم علمي وتقني فإني لاأستطيع أن اتخيل وضعية المحميات العربية التي ليس لها أدنى شروط السيادة إذ حتى ما يعتبر ثروتها هو في الحقيقة ليس لها لعلتين: فلا هي قادرة على استغلاله ولا هي قادرة خاصة على حمايته.
وطبعا لا يمكن لعاقل أن يتوقع من أميري الثورة المضادة أن يفهموا مثل هذه الضرورات والاستعداد لها ومثلهم أمراء الممانعة المزعومة.فجمهورية الملالي وجمهورية الحاخامات كلتاهما قابلتان بالتبعية لكلا القطبين وليس لهما هم الآن عدا استرداد امبراطورية سابقة عن الإسلام من أغبياء العرب.
وينبغي أن نميز بين الملالي والحاخامات. فأولئك يحلمون. وهؤلاء لهم قدم في القطبين. وحتى في روسيا التي تمثل أداة تهديد لأوروبا ومشاغبة للصين المقبلة. أما الملالي فهم أيضا مهددون بالتفكك وربما في القريب العاجل لأن التنافس بين الملالي والحاخامات سيكون في أوجه بعد الانسحاب الأمريكي.
ومعلوم أن الإنسحاب الأمريكي من المشرق لا يعني فقدان الحاخامات القدرة على استعمال قوتها عند الحاجة إليها وحتى قوة روسيا لأن من يحكمها هو المافية التي تسند بوتين وهي لا ترد طلبا لإسرائيل. وسيتبين أن الملالي لا يختلف اغترارهم بمحالفة روسيا عن اغترار الثورة المضادة بمحالفة أمريكا.
صحيح أن التاريخ في ظاهرة لا يمشي بالمنطق. لكنه في باطنه كما قال ابن خلدون لا يمشي إلا به. ما يترتب على تحليل منطق القوى الحالي هو الذي ينبغي أن تبنى عليه الاستراتيجيات الاستقبالية. أما الجمود على معارك الماضي التي فقدت علل وجودها فهو دليل غباء استرايتيجي يخرج صاحبه من التاريخ.
فيكون التهديد للثورة أولا وليس لمن استسلم منا ثم لضحيتي الحرب العالمية الأولى: ألمانيا وتركيا في ضوء جلاء أمريكا. فهما النمران الصاعدان بالعمل والجد لكنهما منزوعا السلاح الكافي لردع الأعداء التاريخيين من حولهما: وليس من صدف التاريخ أن يكون عدواهما مشتركين في العداوة لكل ما يمثلانه في تاريخ الاقليم بطرفيه حول المتوسط.
ولما كنا نحن العرب قد ابتلينا بقيادات سياسية “شديدة” الذكاء من جنس السيسي وبشار وصاحب المنشار ومستشاره خريج الابتدائي فإننا فضلنا الخروج من التاريخ باكرا. لكن ما سيخرج من التاريخ ليس نحن بل ما كان منا مهيمنا عليه لعمالته لذراعي الاستعمار في الإقليم : هي فرصة لنجاح الثورة.
ما ستريد روسيا وإسرائيل التمكن منه هو تركيا للأولى خاصة وألمانيا للثانية خاصة. لكن كليهما يريد التمكن منهما معا لاشتراكهما في العداء لهما بالجوهر. والمعلوم أنـهما قوتان ذريتان. وهما تسعيان لتكونا سيدتي الأبيض المتوسط بعد جلاء امريكا. ومطمع إيران في شيء من ذلك دليل قاطع على كذبة الذكاء الفارسي. قد يكون لهم ذكاء مع غباء بشار وصاحب المنشار ولكن ليس مع هذين.
فإيران أوهى من بيت العنكبوت. وهي ستنهار بنفس الحيل التي تستعملها لتخريب أجوارها: العرقية والطائفية. فهي أقل شعوب الإقليم تناغما عرقيا وطائفيا بخلاف ما يبدو من استبداد الملالي واحتلال حرسها لمدن إيران وقراها. فهذا الحرس أفسد حتى من جيش مصر الذي هو أفسد من كل جيوش العالم وليس العربية وحدها.
وما أن ينجلي الأمريكان حتى تنجح ثورة العراق وسوريا لأن من يحمي بقاؤهما ليس إيران وحدها بل وجود روسيا وأمريكا. فإذا غادرت أمريكا وروسيا كما هو معلوم عاجزة اقتصاديا على مواصلة بقائها في الأقليم فإن الثورة ستجد الفرصة لاستئناف دورها ولكن بعد مراجعة استراتيجيتها والتخلص من أمراء الحرب: إيران المحاصرة لن تستطيع حماية نفسها لأن “دولة” الملالي قد تنهار في أي لحظة فضلا عن حماية مليشياتها في الإقليم.
وستكون روسيا أحرص الناس على مساعدة إسرائيل لإرجاع إيران إلى حدودها الجغرافية أولا ثم ضربها من الداخل ثانيا. وهي حقيقة يعلمها كل من يعلم علاقة روسيا منذ أمد طويل في علاقتها بإيران. ولا أشك في أن طبالي الملالي والثورة المضادة قد يسخرون من هذا التحليل. لكن أفضل الضاحكين الضاحك في الاخير. من يتوهم روسيا تفضل الحلف مع إيران على الحلف مع إسرائيل ينبغي أن يكون أحمقا. فأولا روسيا بوتين حلمها تحقيق ما حرمت منه روسيا في قسمة سايكس بيكو بعد الثورة.
ومن يتصور إسرائيل ليس في نيتها الانتقام من الهتلرية يجهل تاريخ اليهود. لذلك فإن المتوقع هو حلف روسي إسرائيل ضد قوتي الأقليم المزدوج في ملتقى القارات الثلاث بمجرد استكمال أمريكا جلاء جيوشها منه. وستعود إيران إلى حجمها الطبيعي الذي هو جنيس كوريا الشمالية قبل تحقيق ما حققته.

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock