تدوينات تونسية

أمّ سهيل وألعابها التعليميّة !

بشير العبيدي

/|\ #رقصة_اليراع

إذا هممتَ بملاقاة أمّ سهيل، أو تقاطعتْ سكّتك يوماً بسكّتها في إحدى المراكز التعليميّة العربيّة في أوروبا، فستسبقها إليك ابتسامتها الآسرة التي لا تشبه أيّ ابتسامة أخرى. إنها ابتسامة البساطة والوداعة، تحمل إليك إكليلاً مرصّعا بأندى الزّهرات الملوّنة، وقد مرّ بها طيف الرّبيع الباسم، تذكّرك بشتّى القيم السّامقة التي تجتمع في حضرة السيّدة الرّساليّة النّادرة في زمن الشحّ من فرادة الرّجال والنّساء.

لا تطيل أمّ سهيل الفلسطينية الفذّة معك حديثاً فيما لا يعنيها، فهي قلّما تخوض فيما لا ينبني عليه عمل. إن سلّمت عليهاـ فبعيد ردّ السّلام، توقّع منها أن تخبرك للتوّ بآخر مستجدّاتها في التّعليم وتصميم الألعاب التعليمية. إنّها تقدّم إليك لعبتها الوليدة، وتشرح لك – كأنّها طفلة صغيرة – كيف يمكنك أن تلعب بلعبتها، وكيف تستمتع وأنت تتعلّم من دون أن تدري. وأمّ سهيل تشرح لك كلّ ذلك، وهي تريك ورقة كتبت عليها سؤالا أو إجابة، وتضع حرفاً في مربّع، وتوعب مكعّبا في أسطوانة، وتدوّر عقارب ساعة، وتحرّك قاطرة بالحروف العربيّة، وتخطّط للعبة أخرى في رأسها، تهدف بها إلى تسهيل التّعليم، وجعله ممتعاً مبهجاً، يسلب لبّ الصّغير، ويثير اهتمام الكبير.

ولا تكاد أمّ سهيل تنهي حديثها عن لعبها التّعليمية، حتى يباغتها الأطفال يجرون إليها في شغف المتشوّقين، كأنّها أمّهم الوالدة، فيحضنها هذا، وتقبّلها تلك، ويتحّنن عليها ذاك، فتراها لا تفارق الأطفال بعينيها، تصلح شعث هذا، وتثبّت زهرة على شعر تلك، ومعين غائر في مآقيها يوشك أن ينزّ من بين رموشها بعبرة الحنان والحبّ والرّعاية، لكأنّ في فؤاد أمّ سهيل منهل من الماء العذب المتفيّئ على الحقول الخصبة العطشى من حولها.

أمّا مؤونة أمّ سهيل من المواد الأوّلية التي تتخذ منها لعبها، فشيء أعجب من هيئتها. فهي بارعة في تدوير المواد من المهملات، ولا يكاد ينفلت من تدبيرها الرّائق شيء ألبتة، ولا تنافسها في وضع الأشياء مواضعها ولو معاذة العنبريّة، صاحبة المسجديين في كتاب البخلاء، فأمّ سهيل كما تدلّ عليها كنيتها، كلّ صعب عندها يستحيل بسحر ساحر إلى سهل، ولئن لم يخضع بين أصابعها الصعبُ فيكون سهلاً، فتكتفي أمّ سهيل من محمود السّهل أن يكون سُهيْلا… ولكلّ واحد من معنى اسمه في دنيانا نصيب…

ولقد رأيتُ بعيني أمّ سهيلٍ تجدُ استخداماً لكلّ شيء يقع عليه اسم الشيء، حتّى لسقط السّقط. وهكذا، فعلب الحليب تتحوّل بلمسة سحريّة إلى مكعّب، وقطع القماش التي لا يظنّها الظّان إلا مناسبة للمزابل، تتخذها أمّ سهيل لحاء لتغليف جذوع وأغصان شجيرات ألعابها، فإن كانت شجرتها خضراء اتخذت لها لحاء من قماش أخضر يحاكي الرّبيع، وإن كانت شجرتها جرداء اتخذت لها من بقايا قماشها الصوفيّ لحاء يحاكي الخريف. ومما بقي من هدبات القماش تتكوّر بيدها السّحريّة فتصير كرّيات للّعلب بالحروف. أمّا بقايا الورق المهمل فيُقصّ عند أمّ سهيل بعناية المهتمّ فيصير بتلات للأزهار، والأعواد تكون لها سوقا أو أسيجة، وكل شيء أخضر يستحيل إلى بساط معشّب، وكلّ مكوّر يتحوّل إلى ثمر، وكلّ منبسط يؤول أمره إلى أرضية، وكلّ محدّب ينتهي إلى ربوة، وكلّ مقعر تتخذه أم سهيل آنية، وبالجملة، لا يبقى شيء، مما تقع عليه يدا أمّ سهيل وأيدي تلامذتها، مما كبر جرمه أو صغر، إلا تمّ تدويره إلى لعبة تعليميّة مسلّية، تسهّل بها أمّ سهيل طريق متعلّميها – عبر اللّعب والاستمتاع – وتتخذها مطيّة لتعلّم اللّسان العربيّ المبين.

وإن كنت في ريب من المخرجات، فهلمّ إلى فصل أم سهيل التعليميّ وتأمّل، ستراها كأنّها ملكة في شهد من النحل، يتسابق طلاّبها على اللّعب وينتجون اللّغة وفي حسابهم أنّهم يمرحون ويضحكون. وربما يقسم لك القدر نصيباً من حسن الطّالع، فتحضر احتفالاً لها قد نظّمته وبقية المعلّمات، فتسمع من أناشيد تلامذتها الماتع، وترى من ضوء الجمال السّاطع، وتحسّ من مساحة المسرح الشّاسع.

ولقد انعكس أمر أمّ سهيل على المحيطين بها من سائر المعلّمين والمعلّمات في مركز المسلمين في وسط العاصمة النرويجية أوسلو، فهي لا تمنع لُعبَها أحداً، ولا تحرم من أفكارها طالباً، ولا تردّ لمن يلتمس منها مساعدة طلباً، حتى أنّك تظنّ نفسك، حين تتعامل مع كلّ العاملين في المركز هنالك، كأنّك مع نسخة متكرّرة من الشّمائل شبيهة بخصال أمّ سهيل، من العامل في التنظيف وصولا إلى رئيسهم الأستاذ الفذّ إبراهيم، فهو مدير يشعرك حين تحلّ ببلاده أنّك أرفع من زاره قدراً، يستقبلك بنفس تلك الابتسامة الوديعة النصوحة، تلك التي تراها دوما تعلو محيّا أمّ سهيل، وسائر معلّمات رابطة المسلمين في أوسلو.

هكذا هم بعض الورى من الذين يتحفك القدر بمعرفتهم : يتركون في نفسك أثراً عظيماً من الارتياح، وإنّك لتتأمّل الأمور في عمق وصمت، تستجلي ما يستغلق عن النّاس من سرّ النجاح، فلا تجد في تفسير ذلك سوى كلمات تنتظم كالدّرر على جيد الحسناء : إرادة وإدارة ودراية وريادة.

نعم إنّها الإرادة والإدارة والدّراية والرّيادة هي المعاني المجتمعة التي تفسّر ظهور أمّ سهيل وصويحباتها ومديرها هنا، وغيابهم هناك… الإرادة والإدارة والدّراية والرّيادة ليست أبدا لعبة لغويّة تعلّمتها من بين ألعاب أمّ سهيل التّعليميّة. إنها ليست كلمات من أعمدة المعاجم قمتُ بتدويرها لكي تنتظم مع بعضها. إنّها معانٍ متجاورة ومتآلفة ومتحالفة، تأبى حروفها أن تفترق، فتفرض علينا أن نحترمها مجتمعة، لأنّ النجاح، مثله مثل هذا الكون، لا يكون صدفة.

✍🏽 #بشير_العبيدي |ربيع الأنور 1440 | كَلِمةٌ تَدْفَعُ ألَمًا وكَلِمةٌ تَصْنَعُ أمَلًا |

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock