مقالات

تزاور غير بريء، ما دلالته وتأثيره على المسار الديموقراطي ؟

أبو يعرب المرزوقي

لا يمكن أن يشك أحد أن التزاور المتبادل بين قيادات دولتي الثورة المضادة وقيادات تونس يـهدف إلى غاية واحدة: عزل النهضة وإيقاف الانتقال الديموقراطي.

وهو أمر كان متوقعا.
ولكن ليس بهذه السرعة لو لم يسرعه تسرع آخر نبهت إليه وحذرت منه منذ ما قبل الانتخابات البلدية. فالمطاولة لا تكون بسياسة التكتيك بل لا بد لها من استراتيجية محكمة ومناطها قوانين التغير الثقافي البطيئة.
لست أدري كيف ينسى الناس بسرعة أن محو آثار غياب دام ما يقرب من أربعة أخماس القرن ليس بالأمر السهل الذي تمحوه ثماني سنوات عجاف وملآى بالأخطاء الاستراتيجية وأولها توهم بلوغ التمكن الزائف الذي هو بالأساس ناتج عن تظاهر الخصم بالاعتراف به ولكن بقصد تخويف قواعده وبحثا عن الحلفاء.

وقد سمعت البعض يتكلم على أني انطلق من موقف الخائف.
ولست أعلم علام أخاف؟ فليس عندي ما أخاف عليه ولا ما أخاف منه. ما أحرص على حمايته لعلمي بهشاشته ليس أمرا شخصيا لأني لا انتسب إلى حزب معين والاضطهاد ليس جديدا بالنسبة لي حتى وإن لم يتجاوز المستوى المعنوي وليس من النظام بل من طباليه وعملائه وقواديه.
وأحمد الله أن الاضطهاد لم يصل إلى البدني لأني لم انتسب إلى حزب معين ولست ناشطا سياسيا ولا أدعي النضال المباشر ولم أستسغ العمل السياسي حتى بعد أن توفرت فرصته على الأقل مرتين (في مرحلة المرحوم مزالي وفي الحكومة الاولى للثورة).

الخوف هو من إضاعة الفرص والسوانح الإيجابية.
وقد لا يصدقني أحد لكني اعتقد أن قوس الانتقال الديموقراطي قد تكون قاب قوسين أو أدنى من الانغلاق كما يوحي به هذا التزاور المريب بعد الخطأ الذي وقع في تعيين الحكومة الحالية التي بينت عدم شرعيتها بأدلة يتغافل عنها أدعياء القانون الدستوري “بو زوج سوردي” الذين تناسوا أهم مبدأ في الديموقراطية وهو ألا تتغير الأغلبيات بالأمر الواقع بين دورتي الانتخاب أبدا وإذا فقدت الأغلبية أغلبيتها يكون التغيير بتقديم الانتخابات إن لم تستطع الحكم بالأقلية.
فما لم تحصل معجزة في السعودية فيتغير النظام بصورة تبعده عن الثورة المضادة أو تقربه من الثورة وكلاهما يبدو لي مستحيلا لان ذراعي أعداء الأمة -إيران وإسرائيل فضلا عن روسيا وأمريكا- كلهم يعادون الثورة وحتى أوروبا بعد ما حدث في فرنسا.

كان رأيي من اليوم الأول للثورة أن يعطي الإسلاميون الوقت للوقت وألا يتعجلوا في المعركة السياسية لأن القضية قضية مطاولة حضارية لا تقاس بإيقاع التاريخ السياسي القصير بل بإيقاع التاريخ الثقافي المديد: فعودة القبول بالإسلامي في الإقليم معياره ما حدث في تركيا.
فتونس البورقيبية شبيهة جدا بتركيا الكمالية إذ إن بورقيبة كان يريد أن يكون أتاتورك تونس.
وابن علي الأمي كان يريد أن يواصل ما كان دونه مستوى.
ولما كان إيقاع التغيير الثقافي بطيئا وكان أول شروطه الوعي بشروط احترام الذات والتحرر من عقد الثقافة التي سيطرت قرنا بعد الاستعمار حتى صارت رؤاه هي التي تعيش عليها النخب المتنفذة ذات المصالح المشتركة معه فإن التغير ليس أمرا يسيرا.
لما تطور الوعي التركي باحترام الذات والتخلي التدريجي عن احتقارها -وهو أمر شديد البطء ولا يزال هشا وهو ما يزال بعيد المنال عند العرب في المشرق والمغرب على حد سواء بل ازداد احتقارها من قبل النخب الزائفة والمافيات المستفيدة من انهيار كل القيم- صار بالوسع دخول ما لا يقبل الرجع والشروع في التحرر من التبعية.
كان يكفي الإسلاميين أن الثورة أمدتهم بالوجود والمشاركة السلمية بدلا من السعي المحموم للسلطة من دون شروطها وحصول هذا التغير في المناخ الثقافي الذي يجعلهم بصورة أو بأخرى وكأنهم -بالنسبة إلى المؤثرين في التوازنات السياسية في المحل وفي الاقليم وفي العالم- يعتبرون أجانب يهددون “نمط المجتمع”.
لكن السلوك الذي حصل بنسقه المتسرع الذي يجهل فن المطاولة جعلهم وكأنهم يؤيدون أصحاب هذه التهم فيمدونهم بما يشبه الأدلة على علة تخوفهم وهو ما يجعل المسار الانتخابي المعتمد على الثقافة الشعبية ولا يراعي التوازنات الأعمق عدوا للديموقراطية لأنه يتحول إلى ظاهرة مخيفة لمن حكموا أربعة أخماس القرن وليسوا مستعدين للتنازل عن شيء.

سيعاب علي ما يبدو وكأنه تحميل الإسلاميين مسؤولية ما سيقع.
لكن من يفهم طبيعة التشخيص الحالي يدرك أني أحمل خصومهم مسؤولية ما يترتب على كذبتين يدعون بهما أنهم يمثلون القيم المنافية لسلوكهم:
1. الديموقراطية
2. والتنوير الحداثي.
فرفض إرادة الشعب يؤسسونها على وصايتهم المنافية للتنوير الحداثي.
ومن يشترط الرشد للديموقراطية ويحول دون الترشد يضع شرطا دوريا يحول دونهما كليهما.
فالرشد ثمرة للترشد والترشد لا يكون من دون ممارسة الديموقراطية.
ولو اتبعنا منطق المانعين لتعبيرات إرادة الشعب فلا يمكن أن يدعوا أنهم مع التنوير الحداثي: الوصاية على الشعب ومواصلة الاستبداد هو جوهر المشكل معهم ولن يتخلوا عن العنف ما ظلوا يائسين من الاستفادة من الديموقراطية الفعلية فتعود حليمة لعادتها القديمة تزييفا وتحريف لكل القيم لدفع الإسلاميين إلى اليأس هم بدورهم فيغلبون على صفهم انحرافات خطيرة على الجميع. وفي كل الحالات يكون المتنفذون هم البادئون بالعنف كما خططوا لذلك في اعتصام الرز بالفاكية.

مسؤولية الإسلاميين هي التسرح وعدم الصبر وتوهم زوال ذلك يمكن أن يحصل بعصا الديموقرطية السحرية في لحظة صارت فيها الدولة هشة وعاجزة عن تطبيق القانون فيكون أي مخرب قادرا على إيقاف عجلة الانتاج وشروط النجاح الذي يمكن أن يحول دون الفوضى.
لو كانت الثورة ثورة دموية كما حدث في فرنسا لكان يمكن أن نتخيل تغيرا سريعا.
وحتى في حالة فرنسا فالتغير لم يكن سريعا بدليل نجاح الثورة المضادة في الرستوراسيون وهي حدثت في تونس وقد يؤدي التسرع إلى جعلها تصبح عنيفة.
وهذا هو ما أنسبه إلى التسرع في التعامل مع الوضع.
ذلك أن اعتبار الديموقراطية حاصلة والاعتماد عليها لتغيير توازن القوى السياسية السلمية هو الذي يمكن أن يكون صاعقا للعنف بعد اليأس من النجاح الديموقراطي لقى الردة.
وهذا هو معنى التزاور الذي بدأت كلامي به: يأس الرئيس واليسار هو المحرك والاستنجاد بالعضب الناتج عن تردي الوضعية الاقتصادية والاجتماعية واستعمال الاتحاد الذي كان في كل تاريخه حليف من يشاركون في نهب الدولة والفساد لأن أكبر فساد في تونس هو استعمال مؤسساتها وشركاتها الوطنية تكيات للتوظيف غير المنتج بأضعاف أضعاف ما تحتاج إليه.

ولا بد هنا من الإشارة إلى خطا فظيع يقع في الإسلامي التونسي عندما يقيس نفسه على الإسلامي المغربي أو التركي.
فالأول لا يخيف الاستبلشمنت لأن الدولة ثابتة الأركان بفضل نظام الملكية في المغرب أو لنقل لأن دور الإسلاميين السياسي لا يتجاوز الخدماتي والإداري من السياسي ولا علاقة له بالسيادي.
النافذون مطمئنون والإسلاميون يدركون ذلك، ومن ثم فالإيقاع البطيء للثقافي سينجح فيغير السياسي. وتركيا كان يمكن ألا ينجح فيها الإسلاميون لولا حصول فرصتين لا تعوضان:
• الأولى أن المطاولة دامت أكثر من أربعة عقود تخللها رفض رمزت إليه الانقلابات العسكرية
• الثانية أن أمل الأتراك في الدخول للوحدة الأوروبية هدف ضد عنف العسكر وبنحو ما ساعد الإسلاميين بمنع الانقلابات. وقد عادوا إليها.
لكن عودتهم إليها فشلت لأن الإسلاميين برهنوا على فشل ذريع في المجالات التي كانت دائما قدم أخيل في رؤيتهم إذ يتركون العمل السياسي المحقق لمطالب المواطنين ذات البعد السياسي ويريدون تحويلها إلى معارك فقهية تغطي على ضبابية الرؤية وعدم الكفاءة في إدارة الدول (السودان نموذجا).

هذا رأيي أقوله بصراحة ودون قفازات لأن الوضع بخلاف الاطمئنان الزائف عند المطبلين خطير وخطير جدا إذ يعسر أن تنجح أي قوة سياسية مهما اتسعت قاعدتها إذا لم يكن حليفها النجاح الاقتصادي والاجتماعي وتحالف ضدها من بيده هذين العاملين مع المافيات وكل أعداء الثورة في الداخل والخارج.
فتوقعي أن الثورة المضادة ستحقق تصالحا بين الشاهد والرئيس وأن ذلك سيكون بغرض عزل النهضة واخراجها من المعادلة طوعا وسلميا أو كرها بعنف. ولا أعتقد أنهم سينتظرون الانتخابات لتحقيق ذلك.
وأقصى انتظار ممكن لن يتجاوز الربع الأول من السنة المقبلة.
وقد يعجلون قبل ذلك بكثير. وآمل أن يقع ذلك سلميا وبأقل الأضرار على الدولة.
لكن المسار الديموقراطي لن يتواصل.
ومرة أخرى إذا لم تحصل معجزة سقوط الأمير الأحمق وتغير السياسة السعودية -والثاني على الأقل مستبعد لكني أعتقد أن الأول ممكن إذا اضطرت أمريكا لتنصيب البديل وسيكون بنفس المطلوب السياسي الأمريكي الإسرائيلي دون شك- فإن ما أتوقعه واقع لا محالة. ذلك أن بقاء التجربة التونسية قائمة خطر قاتل لهم.
وهذا هو الأمر الوحيد الذي يعنيني.
والتضحية من أجل ذلك حتى بعقد كامل من دون مشاركة إسلامية عادلة ليس كثيرا بالنسبة إلى الحصيلة المنتظرة من التطور الثقافي الذي يجذر الديموقراطية و”يطبع” عودة الأحزاب الاسلامية إلى النشاط السياسي العادي في مجتمعاتنا. وشرطه تحرر ثقافة النخب من احتقار الذات وتصور الأحزاب الإسلامية مؤسلمة للشعوب، لكأنها ليست إسلامية.

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock