مقالات

العودة إلى الاغتيالات السياسية في تونس وتوظيفاتها

عادل بن عبد الله

لعل ما يميز الحياة السياسية في تونس، بعد “حرب الشقوق” داخل حركة نداء تونس، هو أن كثيرين من المحسوبين على ما يسمى بـ”العائلة الديمقراطية” قد أخذوا مسافة من رئيس الجمهورية؛ الذي كان قبل الانتخابات الرئاسية الزعيم غير المنازَع لتلك العائلة في حربها على الترويكا وحركة النهضة، بل في حربها على استحقاقات الثورة برمتها. فأغلب مكونات تلك العائلة لم تجد حرجا في التحالف مع الباجي قائد السبسي، واجهة المنظومة القديمة وقاطرتها لإعادة التمركز والانتشار بعد الثورة. أما الآن، فقد تعالت العديد من الأصوات “الديمقراطية” الرافضة لعبث رئاسة الجمهورية واليسار الوظيفي المنتمي إلى الجبهة الشعبية، ذلك اليسار الذي أصبح اليد الضاربة لرئيس الجمهورية وما تبقى من حركة نداء تونس بقيادة ابنه المدلل حافظ قائد السبسي.

منذ تصريح الباجي بنهاية التوافق بينه وبين حركة النهضة، ارتفع مستوى مخاوف التونسيين من عودة التوتر إلى المشهد العام، وعظمت توقعاتهم (التي لم تكذبها الأحداث) بعودة التحالف بين رئيس الجمهورية واليسار الاستئصالي. وهي مخاوف مبنية على ضرب من الاستقراء لسياقات سابقة مشابهة؛ كادت تدفع بالبلاد إلى أتون الاحتراب الأهلي. فقد كان من الواضح أن رئيس الجمهورية قرر الدخول في مواجهة مفتوحة ضد حركة النهضة وحليفها يوسف الشاهد رئيس الحكومة.

إننا أمام مواجهة “وجودية” مفتوحة لا يحكمها إلا قانون البقاء وعقلية التنافي ومفردات الحرب حتى وإن خرجت في صياغات أو إشكالات قانونية. فرئيس الجمهورية لم يتوان عن الدفع بالخصومة إلى حدها الأقصى؛ غير مبال بكلفته الاقتصادية والاجتماعية والسياسية: اتهام رئيس الحكومة بمحاولة الانقلاب عبر بلاغ للنيابة العسكرية، واتهام النهضة بامتلاك تنظيم سري بعد الثورة عبر الجبهة الشعبية، وهو تنظيم تدفع به الجبهة، عبر هيئة الدفاع الخاصة بالشهيدين، لتحقيق ما عجزت مكوناته اليسارية عن تحقيقه خلال حكم المخلوع بالتحالف معه ضد حركة النهضة تحت شعار”مقاومة الرجعية”، وما كانت عنه أعجز بعد نجاح الانقلاب المصري؛ بمحاولة تَونسة السيناريو الانقلابي بدعم مكشوف من عرّابي الثورات المضادة، أي الإمارات والسعودية.

من ابن علي إلى السبسي

مثلما فعل المخلوع ابن علي، لم يجد الباجي قائد السبسي (سليل النظام الاستبدادي بلحظتيه الدستورية والتجمعية) أفضل من الالتجاء إلى خدمات اليسار الوظيفي، خاصة من ينتمون إلى العائلة الوطنية الديمقراطية المعروفة اختصارا بـ”الوطد”. فبصرف النظر عن انتماء المرحوم شكري بلعيد إلى “الوطد”، يعلم المهتمون بالشأن التونسي مدى تورط الكثيرين من المنتمين إلى هذه العائلة اليسارية في جرائم المخلوع. فقد أسند إليهم النظام مهمات قيادية في آلته القمعية بوجهيها الأمني (في وزارة الداخلية وفي القضاء) والأيديولوجي (في حزب التجمع وفي الثقافة والإعلام والنقابات).

خلال فترة التوافق مع حركة النهضة، كان من الواضح أنّ مبدأ الشراكة بين “الشيخين” كان ضرورة براغماتية بالنسبة لرئيس الجمهورية، وأنه لا يتعامل معه من منطلق مبدئي أساسه الاعتراف بحقهم في المشاركة في إدارة الشأن العام. فرئيس الجمهورية كان ينظر إلى النهضة أساسا باعتبارها تابعا لا شريكا، ولم يكن يحتاجها إلا لإعادة التوازن للمنظومة القديمة التي دفعت به إلى القصر على غفلة من الثورة. ولم يكن إنهاء التوافق بين الرئيس والنهضة ناتجا عن إخلال النهضة بهذه الوظيفة، بل كان أساسا لتغير موازين القوى داخل النواة الصلبة للمنظومة الحاكمة، تلك الموازين التي جعلت الباجي يوقن بنهاية مساره السياسي (ومسار ابنه معه) بعد تحالف النهضة مع رئيس الحكومة يوسف الشاهد.

لقد التجأ الباجي قائد السبسي إلى اليسار الوظيفي، وهو يوقن بأن التناقضات الأيديولوجية والمصلحية بين اليسار والنهضة ستدفع بالجبهة الشعبية إلى نسيان خذلانه لها بتحالفه مع أعدائها في “الرجعية الدينية”، كما كان يوقن أن اختلاف الغايات بينه وبين الجبهة لن يكون عائقا أمام تحالف “تكتيكي” ومرحلي قد يتحول إلى تحالف “استراتيجي”، كما كان زمن المخلوع، في حال نجاح مشروعهما لضرب النهضة وحليفها يوسف الشاهد. ولكن ما هي الغايات التي يلتقي عندها الرئيس والجبهة الشعبية، والتي تبرر هذا الالتقاء الموضوعي بينهما؛ بصورة جعلت الباجي قائد السبسي يحوّل قصر قرطاج إلى منصة إعلامية وواجهة سياسية لهيئة الدفاع عن “الشهيدين” دون سائر شهداء الثورة وما سبقها أو لحقها؟

مصير المسار الديمقراطي

من الواضح أن التقاء الباجي بالجبهة لا تحكمه غاية مفردة. إننا أمام “حرب وجودية” يشعر الرئيس فيها بخطر مؤكد على مستقبل ابنه السياسي ومصالح العائلة من بعده، بينما تشعر الجبهة أن استمرار مسار الانتقال الديمقراطي والاحتكام إلى الإرادة الشعبية سيزيد من قوة النهضة، وسيضعف بالضرورة اليسار، خاصة بعد التقدم بمشروع لرفع العتبة الانتخابية إلى 5 في المئة عوض 3 في المئة الحالية. ولا شك في أن القاعدة الانتخابية لليسار هي قاعدة محدودة، ولا تسمح لليساريين إلا بأن يكونوا قوة نوعية لا ترتفع إلى مستوى الأغلبية القادرة على خدمة مشروعها الخاص، وهو ما قد يفسر جزئيا تحول أغلب اليساريين إلى جماعة وظيفية في خدمة مشروع الطغمة البرجوازية الحاكمة؛ مهما كانت واجهتها الحزبية قبل الثورة وبعدها. فتواصل المسار الانتقال الديمقراطي بالاحتكام إلى صناديق الاقتراع وإرادة الناخبين قد يؤذن بذهاب هذا الدور الموروث من زمن المخلوع، ذلك أنّ وجود النهضة ومن ينتمي اليها من قوة بشرية سيغريان النواة الصلبة للمنظومة الحاكمة إلى التخلي تدريجيا عن خدمات اليسار الوظيفي، وهو ما قد يفسر إلى حد كبير هذا العداء اليساري المكين للرجعية “الدينية” (ممثلة خاصة في حركة النهضة) دون وجود عداء يقابله – خارج البيانات الانتخابية – للرجعية “البرجوازية” (أو حتى “للرجعية الوهابية” التي هي أكبر حليف وممول لأعداء الحركات الإخوانية).

من الواضح أنّ خطة الباجي وحليفه اليساري الجبهوي تشتغل على أكثر من محور وقد حددت لنفسها أهدافا دنيا ومتوسطة وهدفا أقصى. ففي المستوى الأدنى، وهو مستوى سياسي محض، تهدف هذه الخطة إلى تهرئة حركة النهضة انتخابيا، وذلك بتمرير مشروع المساواة بين الجنسين في الميراث. فهذا المشروع سيضع النهضة في إحراج كبير أمام قاعدتها الانتخابية إن هي وافقت عليه، ولكنه سيجعلها أمام إحراج أكبر أمام “الكفيل الدولي” إن هي عارضت المشروع. أما في المستوى الأوسط، فإن خطة الرئيس وحليفه الباجي ستتحرك في مسار مواز توظف فيه مكاسب الحد الأدنى (أي تحجيم وزن النهضة انتخابيا أو إضعاف قدراتها التفاوضية مع القوى الدولية)، وستعمل عبر تحركات احتجاجية عنيفة ومواجهات متعددة مع الأمن على خلق مناخ اجتماعي وأمني متوتّر؛ كي يفعّل الرئيس صلاحياته بتأجيل الانتخابات لوجو “خطر داهم” . ولكن سنام القصد من هذه الخطة هو توظيف ملف الاغتيالات السياسية لتجميد حركة النهضة أو حلّها بحكم قضائي.

ختاما، بصرف النظر عن تقييمنا لسياسات النهضة بعد الثورة، وبصرف النظر عن المآلات القانونية لقضية ما يسمى بـ”التنظيم السري” للحركة، قد لا يكون من المبالغة القول إن قيادة النهضة تدفع اليوم ثمن خيارها الاستراتيجي بعدم فتح ملف علاقة اليسار بمنظومة ابن علي من جهة أولى، وتورّطه – من جهة ثانية – في جرائم هذا النظام ضد النهضويين أنفسهم الذين تحوّلوا إلى مواطنين من درجة ثانية، بل إلى “منبوذين” لا يختلفون إلا قليلا عن طائفة المنبوذين في الهند. فلا يخفى على أي قارئ منصف للتاريخ؛ الدور المحوري الذي لعبه اليسار (بمخزونه البشري وببعض أحزابه وملحقاته الجمعياتية والنقابية) في محرقة الإسلاميين خلال تسعينيات القرن الماضي، بل دور هذا اليسار في ترسيخ النظام العائلي- الجهوي المافيوزي الذي حكم تونس بالحديد وبـ”كلاب الحراسة الأيديولوجية” لأكثر من عشرين سنة. ولكن فتح ملف اليسار ودوره في نظام ابن علي، بل في التطبيع مع ورثته، هو مجرد لحظة مفردة من لحظات فهم الواقع وبناء المستقبل؛ لأنه يحتاج إلى فتح ملف القيادات النهضوية ومسؤوليتهم السياسية والأخلاقية عن “المحرقة” قبل الثورة، ومسؤوليتهم عن عودة “الأزلام” إلى واجهة السلطة منذ حكم الترويكا. ونحن نؤمن أن هذين المسارين المتوازين هما شرط وجود حياة سياسية طبيعية؛ حياة سياسية لا تسمح بـ”عودة المكبوت” أو بتفريغه في قضايا مفتعلة لن يكون المستفيد الأكبر منها إلا الغزاة (الجهات الناهبة) والطُّغاة (الدولة القمعية) والغُلاة (المتطرفون يمينا ويسارا).

“عربي21”

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock