مقالات

خصوم “النهضة” عامل رئيس في صيانتها من الإنشقاقات

نور الدين الغيلوفي

عصفت ريح السياسة في تونس بداية من 14 كانون ثاني/يناير 2011.. وقد كانت من قبل مواتا فلمّا هرب رأس النظام ظهرت كعفريت أفلت من قمقمه..
في تونس مثل غيرها من البلاد العربية كانت الدولة تخنق السياسة وتضع عليها حدودا صارمة تستهدف من ورائها أن يستتبَّ لها الأمر ويستسلم الناس ويرضوا بمنزلة الرعايا مخافة أن يدفعوا ثمن مقام المواطنة..

أربعة أصناف

وقد كان المشتغلون بالسياسة في مدار دولة الاستقلال أربعةَ أصناف: صنف أوّل تابع يمثل الأدوات التي كانت تستعملها الدولة، وصنف ثانٍ نشأ على هامشها، فهي تراقبه من بعيد تقرصه متى تجاوز حدوده ولكنّها تبقي عليه هامشا لها وامتدادا لمجالها وتستعين به لتُجهز على ما بقي من رمق حياة خصومها، وصنف ثالث لا لون له ولا طعم ولا رائحة، وهؤلاء هم أتباع أنظمة دكتاتورية منافسة لا يملكون غير أصوات انكشف زيفها من أداء الأنظمة التي يمثّلون امتدادا لها ولا يستطيعوك فكاكًا منها مرجعيةً وحيدةً لهم ومسوغًا أوحدَ لوجودهم. وصنف رابع منبوذ لا حقّ له في الحياة أصلا تطارده الدولة من أجل استئصاله لأنها ترى فيه تهديدا لنهجها وإفسادا لأمرها بسبب مَا يحمله من أفكار ومواقف تختلف عمّا تراه بعد أن تحوّلت الدولة الوطنية إلى وحش يلتهم كلّ شيء، يطوّع من كان قابلا بالتطويع ويكسر من لا يطيع.

وتنتمي حركة “النهضة” إلى الصنف الرابع المنبوذ الذي جعل منه النظام عدوّه الوجوديّ، لا لأنها حركة متدينة والنظام لا دينيّ، ولا لأنّها احتكرت الفضائل في دولة كبتت الحريات فماتت بموتها الفضائل، ولكن لأنّ سياق الدولة الوطنية قد هضم كل الأجسام التي لا ترى مانعا من تبنّي أفكارها.. واستعصت حركة نبتت من نبع مختلف يرى السياسة مسيّجة بمرجعية إسلامية ترتاب في الأدبيات التي تراها دخيلة، دون أن تزعم تمثيلها للإسلام.. إنّما هي اقتراح من جملة اقتراحات تعمل على النهوض بالبلاد وإعلاء شأن الإنسان فيها.. ولأنّ لهذه الحركة من البيداغوجيا ما به تؤثّر وتقنع وإن رأى خصومها في خطابها متاجرة بالدين يبرّرون به رفضهم لوجودها كيانًا سياسيا منافسًا كأنّ الدين بضاعة رائجة في زماننا يحتكرها بعض الناس دون بعضهم الآخر.

شنّ النظام حربا شعواء على حركة “النهضة” التي قد تكون أخطأت في بعض المواقف والتقديرات دفعت ثمنها غاليا من أعمار مناضليها ودمائهم، وقد تمكّن من استئصالها من المشهد. ولمّا كان مجرّد الانتماء إليها تهمة يعاقَب مرتكبُها فقد توزّع مناضلوها بين المنافي والسجون ولم يكن يُسمح للخارجين من السجون بأن يستردّوا حياتهم الطبيعية داخل المجتمع بل ظلّوا منبوذين حتّى لقد تحوّل الوطن في نظر كثيرين منهم إلى سجن كبير أشدّ سوءا من السجن الذي خرجوا منه.. وغرقت البلاد نتيجة ذلك في حقبة مظلمة خيّمت عليها ربعَ قرن من الزمان..

وفي لحظة ما من عودة الوعي إلى الفرقاء الأيديولوجيين اجتمع مناضلو حركة “النهضة” الخارجون من السجون إلى جمهرة من الساسة الآخرين وجرى الحوار بينهم حتى انتهوا إلى تشكيل هيئة 18 أكتوبر 2005 التي دعت في بيانها التأسيسيّ إلى “بلورة عهد ديمقراطي يكفل لكل المواطنين والمواطنات المساواة والحريات والحقوق الأساسية غير القابلة للتصرف أو الاستنقاص ويشكل قاعدة للمشاركة السياسية والتداول على الحكم على أساس تناظر وتنافس البرامج والرؤى وهو عهد من شأنه أن يرتقي بمستوى وحدة العمل إلى إرساء أسس التغيير الديمقراطي”.. على أنّ الوضع ظلّ يحكمه الانسداد حتّى شبّت ثورة 17 كانون أول/ ديسمبر 2010- 14 كانون ثاني/ يناير 2011 التي انتهت إلى فرار رأس النظام.. ومن الفراغ الناشئ من هروبه وُلِدت السياسةُ في البلاد.. بل انفجرت.

“النهضة” من جديد

لقد كان بيان هيئة 18 تشرين أول/أكتوبر التأسيسيّ محكوما بسقف توقّعات محدود لم يكن الفرقاء المجتمعون يتوقّعون ارتفاعه دفعةً واحدة في حدث تاريخيّ أقرب إلى المعجزة اضطرّ في لحظة ذروته رئيس النظام إلى الفرار من صيحات الناس متحصّنا بالليل، فزال عبء ثقيل ظلّ يكتم الأنفاس ما يزيد على ثلاث وعشرين سنة.. ارتفع السقفُ الحاجزُ وخرجت حركة “النهضة” من تحت الأنقاض وسرت في البلاد سريان دماء الحياة فيها وكلّها عرفان بالجميل لرفاق النضال من هيئة 18 تشرين أول/أكتوبر.

كان تصدّر حركة “النهضة” لنتائج انتخابات المجلس الوطني التأسيسي هو الصفعة التي ردّت خصومها السياسيين، حتّى أولئك الذين جمعتهم بها هيئة 18 تشرين أول/أكتوبر، إلى ما كانوا عليه من عداوة لها.. لقد رجع هؤلاء إلى مربعاتهم الإيديولوجية القديمة وعادوا بتصنيفاتهم إلى ما كان سائدا بين فرقاء الإيديولوجيا داخل أروقة الجامعة التونسية في ثمانينيات القرن الماضي.. وبلغ بهم الأمر أن خطّطوا مع خصوم الثورة ونفخوا الروح في مَن قامت ضدّهم ليتحصّنوا بهم من هجمة الإسلام السياسي الذي طورد في مختلف البلدان العربية ولكنّ الانتخابات التي جاءت بها الثورات أوصلت قياداته إلى الحكم في تونس ومصر وليبيا..

ونشأت معركة إقليمية بل دولية ضدّ الشعوب العربية المنتفضة على أنظمة الحكم في بلدانها.. والتقت النقائض على الإطاحة بالثورات بعد أن كشفت الشعوب عن خياراتها وبدا للنخب العربية السياسية والثقافية أن الحفاظ على أنظمة الحكم التسلطية أفضل من صعود حركات الإسلام السياسيّ.. وبدل أن يتقدّم الفرقاء باتجاه تعاقد سياسيّ ينسجم مع أفق انتظار الشعوب ويحقّق آمالها في الإنعتاق ويدخل البلاد في زمن الحداثة السياسية رجعوا إلى الخلف نكاية في الإسلاميين وعلى ذلك اجتمع اليمين واليسار وأنصار الثورة وخصومها.

منظومة 2014

رغم تضييق الخناق على حركة “النهضة” فقد ظلت تناور من أجل فرض حضورها جزءا رئيسا من المشهد استنادا إلى رصيدها الإنتخابي، الذي لئن تراجع بفعل ما أنقصته تجربة الحكم من أطرافها، فإنها حافظت على وجودها رقمًا صعبًا في المعادلة السياسية بالبلاد.. ونجح رئيس الحركة الشيخ راشد الغنّوشي في إنشاء تعاقد سياسي مع رئيس حزب نداء تونس الذي صنعه خصوم “النهضة” مجتمعين لسدّ الطريق عليها.. وقد اتّخذ هذا التعاقد السياسي الناشئ اسم التوافق الذي استمرّ منذ انتخابات 2014 رغم تراكم الصعوبات الواقعية منها والمفتلعة ورغم المكائد الخارجية والداخلية التي لم يكن لها من هدف سوى قطع الطريق على حركة “النهضة” التي فرضت حضورها في المشهد…

سرّ بقاء “النهضة

لا شكّ أن لتونس خصوصية جعلت تجربتها السياسية تنجو إلى حدّ ما ممّا أصاب مختلف دول الإقليم من حرائق، وتعود هذه الخصوصية إلى تفرّدها في كثير من المنجزات التاريخية ليس هنا مجال ذكرها.. ولا شكّ أنّ الشعب التونسيّ قد بلغ من النضج ما جعله بعيدا عن استعمال العنف في إدارة خلافاته، فنجحت الدولة بفضل نضج المجتمع في محاصرة ظاهرة الإرهاب المستشرية في المنطقة وهي في طريقها إلى القضاء عليها نهائيا لا سيما خاصّة بعد ملحمة بن قردان الشهيرة.. لقد كان الشعب التونسيّ حاضنة للدولة أمّا الإرهاب فلم يجد له في تونس من يحضنه..

ولا شكّ أنّ لدولة الاستقلال مزايا منها أنّها نشرت التعليم بين أبنائها واتّخذت لها جيشا وطنيا لا يخرج من ثكناته إلّا لإنجاز وظائفه الموكولة إليه.. ولا شكّ أنّ لحركة “النهضة” كفايات تنظيمية عالية تحفظ تماسكها وديمقراطية داخليّة تحسم بها خلافاتها.. لا شكّ في كلّ ذلك غير أنّ للخصوم دورا محوريا في استمرار الحركة ووحدة صفّها..

لقد كان خصوم حركة “النهضة” هم العامل الرئيس في صيانتها ممّا أصاب غيرها من انشقاقات وقد اتّحدت لذلك جميع الأصناف التي ذكرناها في بداية المقال.. لقد كان وقوف هؤلاء في مواجهة “النهضة” هو الإسمنت الذي حفظ كيانها من التلاشي ووحدتها من الزوال.. ولو أنّهم تركوها لنفسها وحاكموها إلى أدائها ومكّنوها من التقاط أنفاسها لفسحوا المجال للصراع داخلها ولكان لذلك دور في تطويرها لأجل أن تقطع نهائيا مع موروث السياسة الشرعية ولتطوّرت لتكون حزبا سياسيا مدنيًّا يمثّل، بحقّ، إضافة إلى الإجتماع السياسي في بلادنا والمنطقة من حولنا، أو لانفرط عقدها وجرى عليها من القوانين ما يجري على غيرها من العائلات السياسية التي كشف مناخ الحريات عوارها ودكتاتوريتها فطفقت تهدم بناءاتها بأيديها من فرط عجزها عن إدارة الخلافات بداخلها.

لقد نجت حركة “النهضة” ممّا وقع فيه خصومُها بفضل خصومِها لا بفضل إبداعها.. وقد كان أحرى بهؤلاء ألّا يستثنوها من الحريات التي ينادون بها بدعوى كونها حزبا دينيا غريبا عن ناديهم السياسيّ وأن يدَعُوها للتاريخ وللحرية يأتيان عليها كما يأتيان على غيرها.

عربي 21

اترك رد

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock