تدوينات تونسية

دولة المساحيق

نور الدين الغيلوفي
ولو كنتَ في بلدٍ سياحيٍّ…
نحنُ دولة أدعياء.. نتنافس دعاوى فارغات تجعل منّا مثارا لسخرية لا تزول ما دام في الأجواء غيوم لا نفقه لغتها..
نتظاهر بالحضارة ونتغنّى بالأمجاد ونحصي الكفاءات.. نفتّش عن حضور لنا موهوم في دفاتر الحفريات.. ونضجّ بفرح سخيف نخفي به غباء مخيفا.. بل نتفاخر بمنجَزاتنا الخارقة ونحن قابعون في جُحر منيع ننافس الأنعام طمأنينتها فتنجو بيقينها ونقع في حماقتنا.. نتنازع أوهاما ونلوذ بيقين مميت.. وكلّ حزب بما لديهم فرحون.. كلّ منّا يدّعي احتكار مفاتيح الحلول ويُسْكِنُها “لو”.. وينفي عن نفسه الامتناع.. حتّى إذا انفجرت الطبيعة فينا لم تستثن أحدًا منّا.. الكلّ سواسية أمام عبث الطبيعة بمزاعم العظمة الوطنيّة الكاذبة…
العوامل الطبيعية لوحدها كفيلة بأن تكشف زيفنا وتعرّيَ ركودنا وتحصي علينا قعودنا وهواننا على طبيعة صارت كتابا مفتوحا لمن حولنا من بشر سكنوا الأودية ونزلوا عند المنخفضات ولم يخافوا صعود الجبال ولا تركوا استعمال الحفر… هؤلاء أمنوا الطبيعة حين لم يطمئنّوا وعاشوا بين البدائل.. في بعض الدول المنخفضة ينامون بعين واحدة على مدار السنة.. ولكنّ عقولهم تنجيهم.. وتنام منّا العقول.. ولا نجاة لمن نام عقله…
لسنا ندّعي أنّ الإنسان في البلاد الأخرى قد بلغ الكمال وسيطر على الطبيعة وأمن مفاجآتها وفي كلّ حين يأتينا من الأنباء ما فيه مزدجر.. ولكنّنا نقول إنّ الإنسان، غيرنا، قد استنفر ذكاءاته وأنجز من الأعمال ما به يتغلب على أعتى المظاهر وأشرس العوامل.. فبنى الجسور وسوّى الطرقات ورفع المباني وحصّن المدن ووضع البدائل.. وأتقن ما أنجز عشقا للفعل واحتراما للشرف وتقديسا للإنسان.. أمّا نحن فدولة مبنية على الزيف والتصفيق.. دولة بنيانها قائم على الغش والسلب والنهب تحت رعاية الظلم والقهر والكبت.. والتصفيق…
كلّما نزل المطر ببلادنا ظهرت بنزوله الكوارث رغم خلايا الأزمات الميتافيزيقية المنعقدة التي لا أحد يدري عن أمرها شيئا.. ولعلّ شأنها ككثير من الخلايا واللجان التي هي أشبه بالغول والعنقاء والخِلّ الوَدود.. نقاوم الأزمات الماحقة باسطوانة قديمة لا نريد تغييرها خوفا وكسلا وعجزا.. “أسقطنا” نظاما ولا نزال نتكلم لغته ونستعيد سيرته.. والأمور تحت السيطرة.. كأنّ المسؤولين قد صعدوا إلى السماء ليتفاوضوا معها وخرجوا من مفاوضاتهم بميثاق سلام دائم وشامل.. وكذلك فعلوا في السنة الماضية حينما غرق معتمد مطماطة الذي جرفته السيول.. هذه السنة كأنّ السماء قد خرقت ميثاقها مع جلالة دولتنا…
1. بنزول الأمطار تزول أصباغنا ونقف أما المرآة بوجوهنا العجفاء القبيحة.. تتكسّر طرقاتنا وتتهدّم جسورنا وتحتلّ المياه منازلنا كما لو كنّا في خيام الأوّلين…
2. إذا ارتبكت حياتنا المدنية العريقة ولذنا بالفرار هربا من طريق احتلّتها مياه الأمطار وجد المنحرفون طريقهم آمنة واستلّوا خناجر غدرهم ليطعنونا في حلف شيطانيّ مع طبيعة جبّارة لا يثنيها استصراخنا…
3. عجزت دولتنا مرّتين:
مرّة حين وقفت عاجزة أمام جبروت الطبيعة الذي لا يقاوم.. ومرّة حين غفلت عن محترفي الانحراف وتركت لهم الخناجر ليطعنونا.. وكانت غفلتها ذات وجوه ثلاثة:
وجه قانونيّ حين استهان المنحرفون بالمعاقبة فعقروا الناقة..
ووجه أخلاقي.. إذ لو أنّ دولتنا اعتنت بتربية ناشئتنا على الأخلاق لتعطّلت آلة الجريمة إلى حين ولما وجد الإجرام مناخا آمنا في زمان الازمات..
ووجه اجتماعي.. فلو أنّ العدل كان مطلب دولتنا لانحسر منسوب الانحراف مع ارتفاع منسوب المياه…

اترك رد

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock