تدوينات تونسية

دولنا الماكرة

نور الدين الغيلوفي
حقن الاستعمار أمّتنا بأجهزة تعقيم رضي لها أن تسمّيَ نفسها دولة وطنيّة.. نشأنا فيها ولكن لا شيء منها ساعدَنا على حبّها ولا الإيمان بها.. فهربنا من غولها وركبنا أشرعة إيديولوجيّة عابرة وَلَعَنّا الحدود تحول دون وحدة الأمّة من محيطها الهادر إلى خليجها الثائر..
ومن منّا لم يلعن الحدود؟
قلت: إن الدولة الوطنية فعلت فينا فعل التعقيم.. فظللنا ندور في كلّ قطر كثور الطاحون.. ولا طحين يطعم من جوع..
ماذا فعلت لنا الدولة الوطنية؟ العالم من حولنا يحاكي الضوء في سرعته ونحن قُدّر لنا أن نكون كائنات تأكل وتشرب وتمحو من أميتها ما لا يتجاوز السقف المحدود.. ونرقص للفراغ… نحن كائنات لا تتقن غير الاجترار…
انطلقنا من لحظاتٍ انطلقت منها دولٌ أخرى من حولنا.. فتقدّمت ولم نتحرّك…
في ثمانينات القرن الماضي كنّا إذا ذكرنا المجاعة عنينا بها دولة أثيويبا.. فأين دولنا من أثيوبيا اليوم؟..
وفي خمسينات القرن الماضي كانت اليابان في منزلة مصر فأين مصر من اليابان اليوم؟…
نحن أمّة هجرت الحركةُ جميعَ أركانها.. اختارها العجز سكنا والتخلّف مرتعًا والضحكُ مسرحًا…
إسلاميّونا يجترّون، في عجز، سيرة الأسلاف يمضغونها ويضعونها نصب أعينهم ويجعلونها أفق نظرهم ويتّخذونها أقصى غايتهم..
ليبراليّونا يجترّون، في عناد، ميراث الليبراليين.. وتقف الليبرالية لديهم عند نسختها البورقيبية.. وهم لا يذكرون لزعيمهم مأثرة أكثر من نزع القمل عن رؤوسهم…
يساريونا يجترّون، في كسل، مربّعا من الأسماء أضلاعه ماركس ولينين وستالين وماو تسي تونغ.. يتحصّنون بها.. يجعلون منها تعاويذ تحميهم من هبوب الرياح…
عروبيّونا يجترّون سيرَ حكّام قُرنت أسماؤهم بدبّابات عسكرية دخلت المدن فسحقت بقايا العمران بها وجعلت من الأوطان أوكارا تسكنها وحوش المخابرات.. فانهار تحت أزيزها البنيان.. ثمّ سكن أزيز الدبابات.. وأرجأت، إلى أجل غير مسمّى، جميع المعارك.. وظلّ الناس رهائن صوت معركة لم تندلع حتّى مات القادة وورثهم أبناؤهم يجرّبون في شعوبهم البراميل تنجز ما لا تستطيعه الدبابات…
جميع هؤلاء الفرقاء لا يختلفون عن بعضهم البعض في غير العناوين والأسماء وبعض الشعارات.. أمّا الجوهر فواحد…
جميع هؤلاء لبسوا مع الثورات جبّة الدولة الوطنية التي لم تكن تسعهم ورضوا بها زيّا يشهدون به حفلة تنكّرية تختفي فيها وجوههم فيلتبس عليك الأمر.. وهم بما يفعلون إنّما يعطّلون الثورات عن نسف متداعيات مبانيهم..
ولن تكون الثورة ممكنة إلّا بزلزال يطهّرنا من أدران العالقين بالتاريخ من فرقاء لا فرق بينهم…

اترك رد

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock