تدوينات تونسية

علبة ياغورت

حسن الصغير
في أواسط سبعينيات القرن الماضي كانت معرفتنا نحن أطفال الريف بالياغورت (الزبادي) شبه منعدمة فلم تكن هذه المادة قد دخلت في الثقافة الاستهلاكية لبيوت القرية، كما أن دكاكين (بقالات) القرية الثلاثة لا تبيع هذا المنتج إذ لم تدخل الكهرباء حينها للقرية بعد وبالتالي لن يستطيع التجار حفظ هذه المادة، وربما أيضا لغلاء ثمنها وعدم الإقبال عليها من المستهلكين.
وفي تلك الفترة أيضا توفر كل الأسر حاجاتها من اللبن والحليب والزبدة والجبن من قطعانها الخاصة من الأغنام والماعز ويندر وربما يستحيل أن تجد أسرة في القرية تستهلك حليبا او لبنا او جبنا من الأسواق.
وكنت في السادسة من عمري عندما رأيت علبة ياغورت للمرة الأولى في حياتي إذ صادف يومها أن زرت رفقة أمي منزل عمي لمناسبة ما وكان عندهم ضيوف من المدينة لهم ابنة صغيرة في نفس عمري تقريبا اسمها ثريا يبدو ان أهلها جلبوا لها معهم علبة ياغورت لتأكلها لكنها ظلت تلعب بها.
وبمجرد وصولي لبيت عمي طلبوا منا نحن الصغار أن نخرج للعب خارج المنزل حتى نترك الكبار لأحاديثهم، فخرجنا ورافقتنا تلك البنت الصغيرة وعلبتها في يدها لم تفتح بعد.
انطلق أبناء وبنات عمومتي في اللعب والركض والصياح لكني بقيت مشدوها أنظر لتلك العلبة العجيبة التي لم أر مثلها أبدا كانت علبة مربعة الشكل قاعدتها أصغر قليلا من أعلاها لونها مثل صفار البيض عندما يختلط بالتراب ولها خطوط طولية تغطي جهاتها الأربع ومغلقة بقطعة من معدن لا أعرفه فضية اللون تذكرني بلون إحدى أسنان جارنا التي أراها كلما ضحك أمامنا.
والغريب أن بقية الأطفال لم يبدوا كثير اهتمام بالعلبة ربما لسابق معرفتهم بها أو لسبب آخر لا أعلمه، فتصنعت بدوري عدم الاهتمام ثم سألت أحد أبناء عمي عن اسمها فقال لي إنها ياغورت ولا توجد إلا في المدينة فزاد ذلك من استغرابي.
كنت أنتظر ان تغفل البنت قليلا عن علبتها حتى أتأملها عن كثب لكنها كانت تلعب وهي في يدها، وبعد فترة من اللعب يبدو أن البنت المدنية شعرت بالجوع فخضت العلبة جيدا ثم فتحتها بيد مدربة وجعلت الفتحة على فمها وشربتها حتى الثمالة ثم رمتها فوقعت بين شجيرات الصبار وعادت للعب كأن شيئا لم يكن.
وبعد فترة بدت لي دهرا نادونا للغداء في الداخل فتراكض الصبية لكني تخلفت قليلا حتى أقفرت الساحة أمام المنزل فركضت إلى حيث شجيرات الصبار وانتشلت العلبة من بين الأشواك كانت لا تزال فيها بقية من هذه المادة العجيبة فأدنيتها من أنفي وشممتها فإذا رائحتها غريبة لم أعهدها من قبل وبدت لي مزيجا بين رائحة الحليب والجبن والأعشاب، فغمست اصبعي في تلك البقية وتذوقتها لكني لم أستسغها وبدا لي طعمها أشبه بطعم الخميرة التي كنت أسرق منها حبات لأمي وهي تعد عجينة الخبز فرميتها بسرعة وركضت لمنزل عمي حتى لا يفوتني الغداء!!!

اترك رد

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock