تدوينات تونسية

تونس وشروط قيام “دولة المواطنة” ؟

عبد الرزاق الحاج مسعود
بعد جدل تقرير الحريات الفردية والمساواة،
في أي اتجاه يسير المجتمع التونسي؟
وهل يمكن أن تتوفّر في تونس شروط قيام “دولة المواطنة”؟
كشف تقرير الحريات الفردية والمساواة حدّة الانقسامات النظرية والسياسية التي ما زالت تشقّ المجتمع التونسي وتهدّد وحدته وحظوظ قيام دولة المواطنة فيه واستقرار ديمقراطيته الوليدة وتوضّح خارطته الحزبية. لم يكن ينقص هذه الانقسامات سوى قادح صغير مفتعل وخبيث أو حتى تلقائي حتى تتحوّل إلى انفجار اجتماعي وسياسي عنيف ومواجهات. ليس وعيا مدنيا راسخا ما منع ذاك التحوّل الكارثي، ولا نضجا من جانب الجماهير التي خرجت لتدافع عن مقدّساتها “الدينية أو المدنية” بحماسة محاربين، ولا قدرة حزبية تنظيمية فائقة على ضبط الشارع، ولا يقظة أمنية خارقة، بل هو ببساطة غياب ذلك القادح.
طبعا يستطيع أي كان أن يمرّ ببساطة أمام كلّ هذه المعطيات ويهزّ كتفيه قائلا أنني أبالغ. أو أن ما ثار من جدل ليس إلا دليل حيوية صحية في مجتمع يخرج من الاستبداد إلى الحرية. تلك مصادرة لا نطمئن إليها إزاء مستويات الشحن والتعبئة والتحشيد التي كان يمكن أن تتطوّر نحو عنف مادّي لولا غياب القادح كما أسلفنا.
المتابع للجدل الفايسبوكي الكثيف الذي أثاره التقرير يقف مباشرة على أن ما طرحه التقرير لم يكن ترفا فكريا مفتعلا كما يروّج من ليس له الشجاعة الفكرية ولا أدوات التفكير الحرّ للحسم في المواضيع التي طرحها التقرير بسبب حساسيتها في سياق أخلاقي متجمّد، وبسبب ارتباطها بأحكام “شرعية” هي كلّ الدين عند ورثة كسل فكري متوارث بطمأنينة عاجزة، وبسبب تأثيرها المباشر على بنية الأسرة وعلى بنية المجتمع المستقرّ على مواضعات ذكورية قاهرة للمرأة متجذّرة ليس من السهل خلخلتها دون ثمن.
غياب القدرة عل النقاش الحرّ والموضوعي مردّه أيضا شبهة استقواء اللجنة التي صاغت التقرير بجهاز الدولة، ولكن مردّه أساسا اتصال المسائل المطروحة بالنصّ القرآني والمرجعية الدينية “الهلامية” التي اعتمدها الدستور في سياق تسويات سياسية لملمت على عجل مسائل فكرية جوهرية مثلت محور تفكير العرب منذ عصر النهضة وما عرف بصدمة الحداثة ( حملة بونابرت على مصر). تسويات تمحورت حول فكرة نفي التناقض بين الإسلام مع الديمقراطية في السياسة، وبين الإسلام والحداثة عموما في الفكر والاجتماع. وهو مخرج زئبقي وقتي لموضوع ما زال يمثّل مأزقا نظريا وتاريخيا شاملا أمام العرب المسلمين.
هذا الالتفاف الدستوري حول المأزق الحقيقي (والذي كان مبرّرا سياسيا سنة 2013) تجلّى في تصادم التأويلين السلفي والحداثي للدستور خلال “المواجهة” الأخيرة. حيث “لجأ” كل فريق إلى الفصل الذي يخصّه لدعم قراءته، مع فارق طفيف وهو مطالبة بعض الأصوات المنسجمة مع نفسها بتعديل نهائي للدستور ليصبح مدنيا خالصا عوض هذه الازدواجية التي تفقده إجرائيته، خصوصا في غياب محكمة دستورية تسهم في بلورة فقه دستوري يكون قاعدة شرح وتطوير مضامين الدستور/اللغز.
• هل نستطيع في هذا المناخ الانقسامي الحربي الحديث عن دولة مواطنة جامعة على قاعدة المساواة الكاملة بين المواطنين؟
هل تقوم الدولة في مجتمع منقسم بين معسكرين لا جامع بينهما: معسكر يرى في المنظومة الكونية لحقوق الإنسان مرجعية نهائية وحدها كفيلة بضمان حقوق الجميع دون تمييز بين البشر على أساس الجنس أو اللون أو الدين، ومعسكر مقابل يرفع شعار الخصوصية الثقافية عنوانا لـ”الاستقلال الحضاري” (هذا الشعار الفخّ القابل للحشو بكل مبررات العزلة التاريخية، والذي يذكّر بذريعة الخصوصية التي رفعها المستبدوّن لحرمان شعوبهم من ديمقراطية لا تلائمهم) في مواجهة امبريالية ثقافية غربية متمركزة حول الإنسان إلى حدّ تأليهه، وتتمسّك بحصريّة المرجعية الدينية المتمركزة حول الله الذي تصرّ على أن حاكميّته أرعى لمصلحة الإنسان.
ضمن هذا الاستقطاب الحدّي/الوجودي بين المعسكرين لا نرى فرصة تاريخية حقيقية لقيام الدولة العقلانية الحديثة. لذلك شهدنا ارتدادا سريعا ومذهلا بمناسبة جدل المساواة في الإرث إلى مربّعات الصراع الهووي الجذري. صراع انتهى، فيما انتهى إليه، إلى طرح بعض المطمئنين لهوية الشعب المكتملة بل المتجمّدة فكرة الاستفتاء الشعبي (رغم أن الاستفتاء للمفارقة هو أرقى ممارسة ديمقراطية حديثة وغربية تماما).
• ليس ترفا فكريا ما حدث من جدل رغم وضوح خلفية المناورة الانتخابية وعقدة المجد الشخصي لدى صاحب المبادرة. وهما عاملان سرّعا من طرح مواضيع سيواجهها المجتمع حتما ولا فائدة من التذرّع بأولوية الاقتصادي الملحّ على الاجتماعي القابل للتأجيل الدائم في انتظار نضوج الوعي العامّ الذي لا مؤشر على سيره في اتجاه النضوج، إن لم يكن بصدد الارتداد في طبيعة تديّنه إلى تديّن وهابي سعودي متكلّس بسبب انقطاع التديّن الحركي الإصلاحي التجديدي خلال عشريّتي الاستبداد، بل أن جماهير ذلك التديّن التجديدي أنفسهم يرتدّون هم بدورهم بفعل تلك القطيعة الطويلة إلى تديّن براغماتي محافظ يراعي “هوية الشعب ومقدّساته وما هو معلوم من الدين بالضرورة وما لا مجال فيه لاجتهاد بشري..”.
أراد الباجي أن يحرج النهضة ذات المرجعية الدينية المرتبكة بين المحافظة والتجديد بالزجّ بها في مواجهة قاعدتها الانتخابية، قبل أن يتراجع جزئيّا هو أيضا خوفا من قاعدته الانتخابية التي تشترك مع قاعدة النهضة عموما في الانتماء العاطفي المحافظ للتراث الديني المستقرّ.
هذا المشترك الديني المحافظ للنداء والنهضة يمثل مصدر قلق للفريقين بنفس الدرجة تقريبا، ويجعل منه عامل تراجع ممكن وتمييع تدريجي للمبادرة بعد أن انكشف خطرها الانتخابي على الجميع.
والأخطر أن هذه “الفتنة” كشفت هشاشة الانتظام الحزبي في تونس بما خلّفته من انقسام أفقي شقّ كامل المنتظم الحزبي، حيث لم يحصل أي إجماع حول موضوع المساواة بين الجنسين لا داخل النداء ولا النهضة ولا التيار وترددت الجبهة الشعبية طويلا قبل أن تعلن موقفها المساند باحتشام للتقرير. فضلا عن أن زعيم النهضة ترك الباب مفتوحا لإمكانية التعاطي الإيجابي مع المبادرة بما يهدّد تماسك حزبه، وربما يمثّل انقسامه بفعل هذا الاختبار تهديدا حقيقيا لديمقراطية لم تجد بعدُ أحزابها اللازمة للاشتغال. إلا أن تقفز إلى صدارة المشهد أحزاب لا تحمل تشوّهات النشأة المرتبكة، أو تنجح النهضة في التكيف السريع مع روح لوائح مؤتمرها الأخير التي لم تتحوّل إلى قناعات لدى قواعدها، وهو أمر مستبعد جدّا.
• التراجع الجزئي من طرف الباجي عن مبادرته ونزوعه إلى تمييعها، يفنّد جزئيا التهمة السهلة للتقرير بأنه وليد إملاءات خارجية مباشرة تشترط هذه “الإصلاحات” الثقافية على تونس مقابل تسريح القروض والدعم المالي. إضافة إلى أننا لا نظنّ أن الدوائر المالية العالمية يهمّها “التحديث الثقافي” والسياسي مطلقا، بل بالعكس تماما، إذ الاستعمار هو من حمى البنية التقليدية للمجتمع وأراد تثبيته فيها كسرا لمسار تطوّره الطبيعي (تشجيع الزوايا الصوفية ومحافظته على ازدواجية القضاء والتعليم مجهضا بذلك جهود الإصلاح التي انطلقت في تونس قبل تدخله المباشر). وهو اليوم من يدعم مركز التخلّف العالمي المسمّى السعودية ويحميها ولا يكلف نفسه عناء الاحتجاج على عقوبات بدنية قروسطية مثل الجلد والرجم في الساحات العامة لأن ما يهمه في علاقته بالدول المتخلّفة هو ضمان تبعيتها وهيمنته عليها لا حقوق شعوب هذه الدول وحرياتهم (ما عدا تقارير حقوقية تصدرها الخارجية الأمريكية للأرشفة عموما وللابتزاز خصوصا، وحساسية شكلانية لدى فرنسا “الأنوار” بخصوص قيم الثورة الفرنسية، حساسية تبيّن زيفها في مناسبات عديدة آخرها دعم وزيرة دفاعها لبن علي بالسلاح لقمع المظاهرات السلمية واستباحتها لليبيا للتغطية على ابتزازها للقذافي ونهبها لثروات ليبيا مستغلة جنونه).
في هذا السياق نتساءل بمرارة: هل بإمكان الاجتماع السياسي التونسي بمثل هذا الانقسام الوجودي بين معسكرين فكريّين متناقضين وبمنظومة حزبية لا تتوفّر على شروط البقاء أن ينتج مدنية سياسية حديثة ضامنة للتنوّع والاختلاف والتعايش منفتحة على مكاسب العصر ومشكلاته ولم لا منبثقة من تأويل حرّ (يبدعه مفكرون أصلاء لا مقلّدون) لرصيد روحي وأخلاقي ديني لا يزال حيّا وفاعلا في الضمائر لولا أنه ما زال أسيرا بالكامل لقراءات لاتاريخية تنتهي به دائما إلى نقيض غاياته؟

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock