تدوينات تونسية

أعمق من تقرير بشرى أو بمُظاهرة مليونية

عايدة بن كريّم
المعارف (العالمة وغير العالمة) تتأثر بالسياقات التاريخية والسياسية والاجتماعية والثقافية التي تٌنتج بداخلها… صنّاع “المعارف” من عُلماء ورجال دين وخُبراء ومُشعوذين وسحرة ودجّالين ومُفكّرين ومُثقّفين يَخْضعون لما توفّره السياقات من إمكانيات ومن معطيات لإنتاج “معرفة” ما (سلعة يبيعونها)… وأيضا هم يُطوّعون تلك “المعارف” للسياسي والمالي والأيديولوجي… فيصنعون وقائع يشتغلون عليها ويروّجون لها ويوهمون الناس بأنها “الحقيقة”… ويُقنعون العامة بأنّ لا “صواب” إلاّ “صوابهم”…
“العلماء” كما “المُشعوذين” و”الخبراء” و”الكهنة” ليسوا ملائكة ولا شياطين وليسوا مخلوقات خارقة للعادة هم بشر لديهم رهاناتهم ومصالحهم وإكراهات واقعهم ومحدودية مواردهم… هم يستثمرون ما لديهم من رأس مال رمزي داخل المجتمع لبناء “وجاهة” إجتماعية يضغطون بها على رجال السياسة وصنّاع القرار من أجل بناء مشروعيات الهيمنة (السلطة)… بعضهم يتمترس خلف “المقدّس” وبعضهم الآخر يستعمل “الترعيب” و”الترهيب” لخوض معارك المال والسياسة…
“المعارف” بأنواعها غالبا ما تُستدعى لترويض الشعوب وتخويفها وإيجاد مبررات استعمارها وتُستعمل أيضا لتحديد وُجهة المُجتمع (أنماط العيش والإهتمامات) وهي أداة لإقناع العامة بوجاهة “الرأي” ومصداقية “القرار”… حتى يقبلوا بالأمر الواقع.
تتشابك سلطة المعرفة وسلطة المال وسلطة السياسة فتُنتج ديناميكيات (مسارت) مُتناقضة بعضها يجذب نحو “التغيير” وبعضها الآخر نحو “الإستقرار”… فهذا يُبرّر الفوضى ويبشر بالإنهيار والسقوط (لأنّ له مصلحة في ذلك) والآخر يُبرّر التوافق ويُبشّر بالإستقرار (لأن له مصلحة في ذلك) وقد يذهب بعضهم إلى تبرير “الذبح” من أجل “الإقلاع”… وجميعهم يستحضر “المعارف”: مؤشرات وإحصائيات وتجارب مُقارنة ودراسات ميدانية وسبر آراء وتحاليل بمُقاربات علمية وأكاديمية وعلوم شرعية وتفاسير وقراءات ونصوص دينية… وكلّما تعدّدت الرهانات تنوّعت المُحركات واحتدّت التجاذبات… وكلّما رجحت كفّة قوى على قوى أخرى يقع إستدعاء “المال والمعرفة والسلطة (القوة)” لترجيح الكفة…
الخلاصة: إن ما نشهده من معارك قد تبدو في ظاهرها “مُقدسة” (الدين والحداثة) هي “صناعة” تقوم بترويجها قوى محلية ودُولية من أجل التحكّم في ديناميكيات المجتمعات ومن خلالها التحكّم في وُجهة الأسواق الكونية… “سلع” تُنتج في مخابر البحث وفي مراكز التفكير وتُروّجها “نخب” فكرية وسياسية وثقافية صُنعت خصيصا لهذه المهمّة وتستهلكها شعوب أضاعت البوصلة…
تقرير “الحريات الفردية” وما حام حوله من معارك ونقاشات ومضاددات وبلا بلا بلا… كلّه يتأطّر ضمن “الصراع” حول السلطة… ومن يخرج منتصرا سيكون “بولونة” في ماكينة النظام العالمي الجديد…
أمّا مسألة الدفاع على القرآن فهي حكاية أخرى… لأنّ القرآن فيه روح وفلسفة ضيّعناها منذ تأدلج الدين الإسلامي في القرن الأول للهجرة ووظفه العلماء والفقهاء لتبرير “الإستبداد” وتقنين “التوريث” وتشريع “التمذهب”…
جدلية العقل والنصّ وتجديد الفكر الديني وإعادة قراءة المدونة الفقهية بمُقاربات حديثة… موضوع أعمق وأعقد من أن يُحسم بتقرير بشرى أو بمُظاهرة مليونية…

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock