تدوينات تونسية

إن لم نجد “زعيما” صنعنا صنما

عايدة بن كريّم
هل يُمكن لأي “فعل” ثقافي أو سياسي أو فنّي أو ديني أو معرفي أن يخرج على السياق الاجتماعي الذي يدور بداخله ذاك “الفعل”؟
إنّ أي ممارسة إنسانية مهما كانت طبيعتها تتأثر إلى هذا الحدّ أو ذاك بهوية “الفاعلين”… فهي تأخذ سماتها الرئيسية من تصوّراتهم وتمثّلاتهم ومعارفهم التي اكتسبوها بالتعلّم أو بالممارسة…
الفاعلون الحاليون في أغلب المجالات (السياسية والثقافية والدينية…) نشؤوا وتكوّنوا في مدرسة بورقيبة وبن علي… المدرسة الأولى جعلت من “المجاهد الأكبر” و”الزعيم الأوحد” فكرة رئيسية تتمحور حولها تمثلات المُجتمع وتصوراته… والمدرسة الثانية جعلت من “الجنرال” صانعا للتغيير ومن الإنقلاب آلية للتحوّل… جلّ الفاعلين درسوا تاريخ تونس حسب سردية “الزعيم الأوحد” واكتسبوا تصوراتهم ومُعتقداتهم حول الوطن والوطنية من “توجيهات الرئيس” ومن دروس التربية الوطنية ومضامين الكتاب المدرسي حول تاريخ تونس والحركة الوطنية،.. الجيل الثاني من خرّجي هذه المدرسة طوّعوا ما اكتسبوه من معارف لخدمة مؤسسات دولة مافيوزية تحكمها “حجّامة” وكمشة باندية وخلايق “طرابلسية”… سياسيين ورجال تعليم وجامعيين وإعلاميين وأكادميين ورجال دين ورجال قانون ونقابيين من جميع التيارات والمشارب اشتراهم بن علي ووظفهم لخدمة مصالحه وتبييض صورته في الداخل والخارج مُقابل مناصب ووزارات وامتيازات… البقية جنّدتهم شبكات أولاد “الطرابلسي” وأولاد “المبروك” و”الماطري”… خلايق تحوّلوا إلى رجال أعمال وباندية تحوّلوا إلى مُقاولين كبار ومهرّبين أصبحوا أصحاب شركات عالمية…
في هذه المناخات الموبوءة بالرشوة والإنتهازية والوصولية لا أرى غير مسلسل “علي شورّب” أنموذجا للإبداع التونسي الذي يتحكّم فيه ذوق ورثة “الطرابلسية”… و”الشالوم” كاميرا تعكس بؤس تلامذة مدرسة بورقيبة -هم باعوا زعيمهم وباركوا الإنقلاب مُقابل مناصب وامتيازات رخيصة-، الصندوق متاع ولد الفهري هو بالضبط صورة لما يدور داخل جزء كبير من المجتمع (ناس تجري خلف الربح السهل وتبيع شرفها مُقابل رأس بصل) سامي الفهري وعلاء الشابي كشفوا وجوهنا المُتخفية خلف “المعجزة التونسية”…
••
لكن للأسف معارك المدوّنين وخاصة أولئك الذين اعتقدنا أنهم فكّكوا المدرستين السابقتين وأنهم بصدد بناء مدرسة جديدة لصناعة وعي مواطني ينقد ويُفكّك ليبني واقعا آخر… سجالات حول تفاهات مثل “الله يرحمها” وإلاّ “لروحها السلام” وشكون جاء الأول وشكون ما جاش ويجوز أو لا يجوز… دليلا على أنّ رياح الثورة هبّت في الإتجاه المُعاكس…
للأسف الشديد جميع معاركنا محورها “زعيم”… إن لم يكن الغنوشي فهو المرزوقي وإن لم يكن عبد الرؤوف العيادي فهو محمد عبو وإن لم يكن الباجي فهو بورقيبة… حتى معارك المدونين حول أشخاص (زعماء جدد): ياسين العياري/سامية عبو/…
مدرسة بورقيبة نجحت في تجريدنا من عقولنا فنحن لا نُفكّر لا ننقد لا نُبدع فقط نبحث عن “زعيم” نتحدّث عن بطولاته وعن معجزاته وعن إنجازاته… وإن لم نجد “زعيما” صنعنا صنما… وكلّ فريق يصنع صنمه من الموارد (المادية والرمزية) التي يمتلكها. الفريق القائم على الشأن الثقافي موارده (تصورات وتمثلات ورموز) صنعت “علي شورّب”. أمّا الأحزاب السياسية فهي فاقدة تماما لأي مورد فلا فكرة ولا إبداع ولا استطاعة ولا قُدرة على البناء فاكتفت بتجميل “زعماء” أنتيكا بَرْوزت بعضهم وصنّمت بعضهم الآخر…
يبدو أنّ بورقيبة نجح حيّا ونجح ميّتا في جعل المجتمع التونسي (السياسي والمدني) يلهث خلف “زعيم” مُتَخَيّل… والزعيم عادة يكون على قياس “المجتمع”.

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock