تدوينات تونسية

سأنتخب

عبد الرزاق الحاج مسعود
الانتخابات البلدية الحالية تتنازعها مواقف كبرى ثلاث :
1. موقف حزبي يمثله ميدانيا النداء والنهضة أساسا مع دور “ثانوي” لكنه ضروري للأحزاب الأخرى. ويبرز في حركية ميدانية حزبية لافتة، رغم سنوات ثمان من الثورة المتعثّرة في الوفاء بما تعد به كل الثورات من رفاه اجتماعي وانتعاش اقتصادي واستقلال وطني.
نداء تونس الذي يصل إلى الانتخابات البلدية في وضع معقّد جدا: حزب لملم وضعه الداخلي بصعوبة في اللحظات الأخيرة بما مكنه من “محاولة” تسخير كل إمكانيات الحكم (رئاسة وحكومة وأجهزة إدارة) في حملته الانتخابية، ومن تفعيل شبكة علاقات النظام القديم للوصول إلى كامل تراب البلاد (إلا قليلا). ولكنه لا يحظى بنفس القوّة التي دخل بها انتخابات 2014 حين كان يمثّل الرهان الأوحد في مواجهة النهضة، وهي المهمة التي ينافسه فيها اليوم “الإتحاد المدني” المكوّن من 11 حزبا (منها من خرج من عباءة النداء ويعتبر نفسه أمينا على مشروع النداء وفكرته المؤسسة).
حزب يفتقد لحرارة الإنتماء السياسي الداخلي، ولكنه يستمد فاعليته من الرهان الدولي عليه ومن زخم نجاحه غير البعيد زمنيا في إخراج النهضة من الحكم. وهو يخوض المعركة ويستنفذ كل وسائل التأثير بإصرار من لا يريد أن يخرج من السياسة باكرا كما دخلها غفلة.
حركة النهضة التي تصل إلى محطة الديمقراطية المحلية بحمولة معقّدة أيضا: قيادة مرحلة تأسيسية انتهت بدستور توافقي وهيئات دستورية عليا تمنع الديمقراطية من السقوط النهائي وتحفظ الحد الأدنى من المشاركة الشعبية في الحكم( ديمقراطية تمثيلية للسلطة المركزية، وديمقراطية شبه مباشرة للسلطة المحلية المستجدة). ولكنّ خصومها من الراديكاليين وبعضا من قواعدها الغاضبة يتهمها بالتفريط في حقوق ضحايا عهود الإستبداد وبمهادنة المنظومة القديمة والتحالف معها ومساعدتها على العودة التدريجية لحكم البلاد، وبالتنازل عن هويتها الاحتجاجية النضالية الاجتماعية وعن هويتها الفكرية والتحوّل التدريجي إلى أداة من أدوات تمرير الأجندة الاستعمارية لمؤسسات النهب المالي العالمي.
منتقدوها لا يقتنعون بأن تجربة التأسيس الديمقراطي التونسي وقع استهدافها داخليا من داخل الصف الثوري المنقسم والمشتت والموبوء بأمراض الزعاماتية والرغبة الجامحة في الحكم ولو على أنقاض كل شيء، ومن داخل الإقليم العربي “الثريّ” المعادي للديمقراطية والمستعدّ لتمويل وتسليح الانقلاب عليها، وخارجيا من طرف قوى الاستعمار الصهيوني والغربي الذي تفاجأ بالثورات العربية وعمل على احتوائها واختراقها بوسائل مخابراتية وسياسية وعسكرية. منتقدوها يتهمونها بأنها هي المسؤولة عن إضاعة فرصة الثورة الجذرية الناجزة، وهي تردّ بأن نجاحها الأوحد هو حفاظها على فرصة الديمقراطية قائمة في الحدّ الأدنى رغم كلّ ما حيك ضدها من مؤامرات.
بهذا الحِمل المعقّد تجوب قواعد النهضة البلاد داعية الشعب إلى الانتخاب للمحافظة على الحد الأدنى من الفرصة. وهي تعلم جيّدا أن الناس بعضها يائس ومؤيَّس وبعضها غير مهتمّ وبعضها مهموم بفقره الحارق وبعضها مغيّب داخل أوهام الدولة الدينية العادلة ونموذجها في الماضي المتخيَّل أو الدولة المثال ونموذجها الإيديولوجي الاستيهامي المرضي. هذه القواعد نفسها ممزّقة بين هذه الأصناف التي ذكرت ولكن يدفعها شعور من الانضباط “الديني” السيزيفي الذي تحسن القيادة توظيفه في عملية سياسية مفتوحة على كل الاحتمالات خيرها وشرّها.
2. المكوّن الثاني للمشهد الانتخابي الحالي هو ما يسمّى بالمستقلين. وهم أصناف.
منهم من لم يكن له انتماء حزبي سابق زمن الدكتاتورية وتكوّن لديه وعي تدريجي بعد مراقبة حكيمة ومتابعة دقيقة لأداء الأحزاب بعد الثورة أن لا حزب ينسجم مع قناعاته، وأنه يملك من الأفكار والخبرة والإرادة ما يدفعه للمساهمة في تأسيس تجربة الحكم المحلي. هؤلاء قلة في تقديري (في حدود ما اطلعت عليه من قائمات مستقلة في جهتي. ودون الدخول في مزايدات التقدير الكمّي أقول أن الذين يملكون هذه العقلية هم بالضرورة قلة في كل المجتمعات).
ومنهم سليلو أحزاب غاضبون من أحزابهم لأنها لم تبوّئهم مكانتهم اللائقة في قائماتها. ومنهم من خرج من حزبه منذ محطتي سنتي 2011/2014 أو خلال معارك حزبية داخلية صامتة أو صاخبة لأنه لم يجد مكانته “الطبيعية” كزعيم مفترض. هؤلاء تقودهم في الأغلب ثارات شخصية مدمّرة رغم إقراري المبدئي بأن خوض تجربة الدخول والخروج من الأحزاب ليس معيبا أبدا في ذاته (بل أن من شروط ثراء تجارب الأفراد هو انفتاحها الدائم على كل الاختيارات) شرط أن يكون الخروج من أي حزب مؤسَّسا على اختلاف في التصورات والأفكار السياسية دون الانزلاق إلى مربعات الأمراض النفسية المدمّرة للتنظيمات والأفراد (حرب المواقع بكل ما تنتجه من أدوات تعامل أو منافسة لا أخلاقية)، وشرط أن ينشر المستقيل من الحزب والمنتقل إلى موقع فعل سياسي آخر نقدا علنيا لتجربته الذاتية حين كان منتميا للحزب الذي سيؤسس وجوده الجديد على أنقاضه. أنا لا أفهم ولا أحترم (أقولها بكل مرارة) من يخرج من حزب قضى فيه عمرا ولا ينقد ذاته قبل أن ينقد حزبه ويتهمه بكل شرور الدنيا. الذي يخرج من حزب عليه واجب سياسي (ولا أقول أخلاقي) هو واجب الاعتراف بأنه كان مخطئا في تقدير انتمائه لذاك الحزب. من حقه أن يقول أنني كنت غبيا أو قاصرا أو مغرّرا بي أو لا أملك أدوات الفهم والتقييم والاختيار فانتميت.. وها أني أخرج وأعتذر لجمهوري الجديد عن نصيبي من المسؤولية في عجز حزبي القديم عن التطور في اتجاه عبقريتي الجديدة. حينها من حق من يتوجه إليهم من موقعه الجديد أن يصدّقوه ويعذروه، أو أن يواجهوه بالقول: لا شيء يضمن لنا أنك غادرت “قصورك” القديم.
من المستقلين أيضا ذوو نفوذ مالي وجهوي أو/وقبلي وأصحاب مصالح اقتصادية لم تتّسع لها الأحزاب. هؤلاء لديهم من الذكاء والجرأة ما مكّنهم من الانخراط في عملية تشكيل قائمات انتخابية معقّدة ومكلّفة مالا وجهدا ووقتا. ولكنهم في سعيهم هذا جمعوا حولهم “بواقي” (مع أني احترم كل من تحمّس للمشاركة في الانتخابات من كل المواقع وأثمّن روحية التطوّع لخدمة الشأن العام، فإني لا أستطيع أن أنخرط في شعبوية التصفيق لأن يتصدى لتسيير الشأن العام محليا أو وطنيا عديمو كفاءة وأشباه أميين) القائمات الحزبية التي استقطبت أغلب الكفاءات (بل أن الأحزاب نفسها اضطرت تحت ضغط الشروط المجحفة للقانون الانتخابي إلى هذا السلوك الرديئ لكن بصورة أقل كثيرا من المستقلين).
3. الفئة الثالثة التي برزت أخيرا في المشهد الديمقراطي الجديد هم فئة الديمقراطيين الداعين إلى مقاطعة الانتخابات. أقول الديمقراطيين.. لأنني لست معنيّا لا بالانقلابيين الفاشيين الذين لا يخفون حماسهم للديكتاتوريات العسكرية والفاشيات الدينية الطائفية، ولا بالحمقى الداعين لخلافة وهمية أو إلى دكتاتورية البروليتاريا. هؤلاء كلّهم موجودون وبعضهم نافذون وفاعلون ويمكن أن ينقضوا على الحكم في كل لحظة ولست أبالغ.
ولكني معنيّ بالذين تحمّسوا للثورة وأمضوا أعمارهم يحلمون بها ودفعوا أثمانا باهضة من سجن وملاحقة وحصار في الدراسة والرزق دفاعا عن مطلب الديمقراطية. وهم الآن يعتبرون أنفسهم من قادة الرأي وصنّاع الوعي. هؤلاء يقدّرون أن مرحلة التأسيس الديمقراطي في تونس تمخّضت عن لا شيء: أحزاب متغولة وفاقدة للرؤية والاستراتيجيا خذلت الثورة وعاجزة مهما أصلحت من نفسها عن قيادة العملية التغييرية كما حلموا بها دائما. يرون أن حصيلة ثماني سنوات من الثورة هي صفر إنجاز، رغم أنهم تحمّسوا لكثير من محطات هذا المسار وساهموا فيها من مواقع متقدّمة جدا وخاضوا معارك صاخبة دفاعا عن مسار التأسيس في مراحل مختلفة من عمره القصير. الآن يدعون إلى التوقف عن زراعة الوهم الديمقراطي الذي لا يعدو أن يكون في نظرهم ديمقراطية واجهة وشكلانية تخفي أجندات استعمارية عالمية تتحكّم بالمشهد في كل تفاصيله. الحلّ في نظرهم هو إسقاط هذه الواجهة ليواجه الشعب العظيم خصومه الحقيقيين عراة. وإن رفضت الواجهات الحزبية المؤثثة حاليا للمشهد/الواجهة الانسحاب فهي شريك فعلي في المؤامرة على الثورة ووجب على الشعب دوسها في طريقه نحو اليوتوبيا الثورية الممكنة جدا. من سيقود الشعب نحو هذه اليوتوبيا الممكنة؟ من سيخرج للتونسيين بعد أن تسقط الواجهة الديمقراطية الزائفة ويقرأ عليهم برنامج الثورة الجديدة الحقيقية التي ستضع حدا مباشرة وحالّا لنفوذ لوبيات الفساد والتهريب والجريمة المنظمة والاختراق المخابراتي العالمي المتعدّد والتبعية المالية لبنوك النهب الدولي والتبعية للمحاور السياسية والعسكرية الاستعمارية العالمية المتصارعة وتحقّق سيادة القرار الوطني واستقلاله عن الاستعمار القديم والجديد وتعطي للشعب سيادته على ثرواته الوطنية الكبيرة وتبني منظومته التعليمية والتربوية بالاعتماد على كفاءاته الوطنية بعيدا عن رواسب الاستلاب الثقافي واللغوي …؟
يجيبون بصدق الأنبياء أن الشعب “العظيم” و”الذكيّ” كفيل بخلق قياداته العبقرية الثورية الجديدة. المهمّ انزاحوا أيها القدامى (طبعا يزايدون على الجميع ويقولون أنهم هم أيضا سينسحبون وقتها انسجاما مع جمال الحلم الذي يحملون) واتركوه للفراغ الثوريّ المؤسّس.
فراغ ليس واردا في تقديرهم أن يؤدي إلى خراب عميم. ما الضامن؟ لا شيء، المهم أن نتخلّص من المنظومة الحالية الفاشلة وسيأتي “البرنامج الثوري” والقادة الثوريون لاحقا.
ذكرى ماء وملح وعشرة تمنعني من توصيف هذا السلوك.
•••
لو كان الانتخاب على الأفراد كنت سأختار براحة أكبر. لكن في الوضع الحالي، ولأنني أعرف قيمة ما تحقّق من قليل ديمقراطي في محيط مُخرَّب بالجهل الماضوي وبالوهم الايديولوجي وبشبكات النهب والفساد وبالاستعمار الدولي القويّ،
سأنتخب قائمة حزبية وأنا واع تماما بأنها ليست مثلى.
لا يمكن أن أنتخب أي قائمة مستقلة في جهتي لأنني أعرف أغلبهم عن قرب، ورغم أني أحترم قلّة من الذين انضموا إلى قائمات مستقلة عن حسن نية. وأحترم من سينتخب مستقلين يثق في نزاهتهم وحماسهم وقدرتهم على الإضافة للحكم المحلي لا لمجرّد المماحكة النفسية المريضة أو القصور السياسي الذي يدعو إلى الاستعاضة في المطلق عن الأحزاب لصالح شتات من المرشّحين الذي اجتمعوا بـ”مناسبة”عابرة.
أنتخب وأنا واع تماما بأن الأحزاب الحالية ستتغيّر قريبا ولن يبقى منها الكثير.
ستتغيّر هوية الأحزاب بفعل الزمن الجديد.
والذي سيقاوم التغيير سيندثر.
والذي يسهم في تخريب المكسب التأسيسي ولو عن حسن نية يسهم في الارتداد عن لحظة 14 جانفي أولا، وفي تقويض مكسب الحرية الناقص جدا والهش جدا وعى ذلك أم لم يع.
المسافة التي تفصلنا عن ديمقراطية مستقرة ومنتجة للعقلانية والحرية والازدهار الفردي والجماعي بعيدة جدا.
بيننا وبين كل ذلك حماية المكتسبات التأسيسية الدنيا وتوفير شروط التجديد التدريجي للديمقراطية التمثيلية الحزبية الناقصة في اتجاه ديمقراطية الانتظام المدني الأفقي في ظل قانون انتخابي يثمّن قيمة كل صوت.
وقبل ذلك كلّه بيننا وبين المستقبل تحرير خيال وإرادة وعقل لا يزال بعيدا.
وسأنتخب.

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock