مقالات

بورقيبة والإخوان: حقائق أنكرها مريدوه وخصومه

لطفي الحيدوري

تزعم طائفة من النخبة التونسية أنّ الحبيب بورقيبة استخدم، أواخر الستينات من القرن الماضي، ملف قمع جماعة الإخوان المسلمين المصرية ورقة ضغط وتشويه ضد النظام الناصري خصم الحكومة التونسية في القضايا العربية والداعم لمعارضيها اليوسفيين. وهذا رأي يفسّر به أصحابه طبيعة العلاقة العجيبة التي ربطت بورقيبة “الحداثي” بحركة الإخوان “المحافظة”، باعتبارها علاقة طارئة، فدافعَ بورقيبة عن سيد قطب ورفض إعدامه، وندد مجلس الأمة التونسي بحكم الإعدام، وشنّت الصحافة التونسية حملة ضد المحاكمات “الجائرة”، كل ذلك من باب النكاية بجمال عبد الناصر، لا غير، فبورقيبة ما لبث بعد عقد من محاكمات الإخوان في مصر، أن شنّ حملة على نظرائهم في تونس، ورثة الزيتونيين، حسب رأيه.

وتنكر هذه النخبة وأغلبها من مريدي بورقيبة، أنّ علاقة الرجل وصداقته بالإخوان أسبق من ظهور عبد الناصر، ولاحقة لعهده، فلا محلّ للتفسير التآمري الذي يحتكمون إليه.
من جانب آخر، لم يستثمر إسلاميو تونس علاقة بورقيبة بالإخوان، وتربّى جيل من جماعة تونس على أدبيات إخوانية وخاصة قطبية استلهموها في العداء لبورقيبة الذي كان، ويا للمفارقة، يخطب جنبا إلى جنب مع سيد قطب في الدعاية للقضية الوطنية المغاربية في مقر جمعية الشبان المسلمين بالقاهرة سنة 1947. وحين كان القيادي الإخواني البارز يوسف ندا يتجول في العالم بجواز سفر تونسي وجنسية تونسية، منحت بأمر من بورقيبة، كان قادة الاتجاه الإسلامي في تونس في السجن. وكان جواب بورقيبة عن سبب معاقبتهم: “هم يهاجمونني شخصيا لذلك يجب أن يؤدّبوا”، قال ذلك ردّا على وساطة القيادي الإخواني توفيق الشاوي سنة 1982. وتابع بورقيبة مخاطبا الشاوي: “هؤلاء ليسوا مثلكم إنّهم رجعيون”. ويذكر توفيق الشاوي في كتابه “مذكرات نصف قرن من العمل الإسلامي” أنّه ناقش بورقيبة عندما استقبله في تونس وقال له إنّه يستعمل نفس الدعاية الناصرية ضد الإخوان، فردّ بورقيبة: “الإخوان في مصر متنورون، أمّا الاتجاه الإسلامي في تونس فهم جماعة يحركها مشائخ الزيتونة التقليديون”.

كان بورقيبة يرى في الإخوان المسلمين نموذجا مخالفا للتيار الزيتوني الذي عاداه خلال فترة الكفاح ضد فرنسا، ويرى الإخوان جماعة وطنية تمدّ أيديها لعون الشعوب المضطهدة، أمّا الاتجاه الإسلامي فهم ليسوا سوى خصومه الشخصيين يخوضون ضدّه صراع وجود.

ولا يعني ذلك أنّ بورقيبة كان منسجما مع فكر الإخوان، فهم يخالفونه رؤيته الثقافية والحضارية، ولذلك لم يكن متحمسا لوجود حركة مثل الإخوان المسلمين في تونس قد تعارض رؤيته للتحديث، ونبّه صالح بن يوسف إلى ذلك في رسالة سنة 1951 (أنظر كتاب محمد ضيف الله “أواخر الزيتونيين”). ويبدو أنّ هناك تباينا في الموقف من الإخوان داخل الحزب الدستوري آنذاك، فحين استأذن القيادي توفيق الشاوي من قادة الحزب في تونس في جلسة جمعتهم في حلق الوادي بتونس العاصمة سنة 1947، بأن تنشط جماعة الإخوان بين الشبان التونسيين الناشطين في باريس وتونس “باعتبار فكرة الإخوان لا تتعارض مع الحركة الوطنية ولا مع التزام الشباب نحو الحزب”، وفق تعبيره، كان ردّ الباهي الأدغم بأنّ التوقيت غير مناسب وقد يتسبب في انشقاق داخل الحزب، وأشار بأنّه يستحسن تأجيل الموضوع.

لقد أعجب بورقيبة، وقادة الحزب الدستوري الجديد، بقدرة الإخوان على جعل الفكرة الإسلامية منسجمة مع النضال الوطني، ولذلك وفي إطار الصراع بين بورقيبة والزيتونيين، نشرت جريدة “لواء الحرية” لسان الحزب الدستوري الجديد في سبتمبر 1951 مقالا لسيد قطب بعنوان “الإسلام يكافح” اعتبرته ردّا على “علماء السوء والدجالين والمنافقين والخائفين”، في إشارة إلى مشائخ الزيتونة وخاصة الطاهر ابن عاشور، “الذين أغفلوا عن مرامي الإسلام وفلسفته الاجتماعية وتواطؤوا مع المستعمر”. وقدمت الصحيفة للكاتب ووصفته بأنّه “علم من أعلام العروبة في الأدب وعلم من أعلام الإسلام في الدفاع على الإسلام وتطهيره من أدران الدجالين والمنافقين”.

كما نشرت جريدة لواء الحرية، يوم 28 أكتوبر 1951، كلمة ألقاها “زعيم الشباب” علي البلهوان بمقر جمعية الإخوان المسلمين في القاهرة، وجاء فيها: “لقد آمن غيرنا بقوة فرنسا وهولندا وإنقلترا وأمريكا، وآمنّا نحن بالله. فيا أيها الإخوان (…) نحن على أبواب جهاد عنيف شديد، فهيّا معنا لنطرد الأجنبي الكافر من كل شبر من الأرض الإسلامية المقدسة”.

وروى المرحوم الرشيد إدريس في مذكراته عن نشاط مكتب المغرب العربي بالقاهرة، المنشورة بتونس سنة 1981، وقائع عن العلاقات بين الإخوان المسلمين وقيادتهم مع الحزب الحر الدستوري والحبيب بورقيبة. وحسب الرشيد إدريس كان مقر جمعيات الشبان المسلمين فضاء احتضن اجتماعات الحزب التونسي والحركات المغاربية الوطنية. وفي نقل لوقائع اجتماع بدار جمعيات الشبان المسلمين في 8 ماي 1947 يتبيّن أن اللقاء جمع بين بورقيبة وسيد قطب وممثل الإخوان. يقول إدريس: “ارتجل الحبيب بورقيبة خطابا أهاب فيه بأمم المشرق العربي أن تشد أزر شقيقاتها في المغرب العربي، ثم ألقى حلمي نور الدين كلمة الإخوان المسلمين فقال إن الإخوان يضعون أيديهم في أيدي الأقطار العربية عاملين على تحريرها من الغاصبين، وتحدث سيد قطب عمّا يسمّى الضمير الأوروبي والضمير العالمي وانخداع الشرق العربي بهذه الألفاظ”.

كما نقل الكاتب خبر زيارة حسن البنا المرشد العام للإخوان المسلمين مع أعضاء من قسم الاتصال بالجماعة لمقر مكتب المغرب العربي يوم 14 ماي 1947.
ونقل إدريس أنّه زار في 27 جانفي 1947، صحبة المناضلين يوسف الرويسي وحسين التريكي، الأستاذ أحمد السكري أحد قادة الإخوان المسلمين وتحدثوا في قضية شمال إفريقيا.
وروى الرشيد إدريس محتوى كلمة سيد قطب خلال افتتاح مؤتمر مكتب المغرب العربي بالمركز العام لجمعيات الشبان المسلمين يوم 15 فيفري 1947، والتي “حمل فيها على المفكرين من رجال الثقافة من العرب الذين يجري الاستعمار في دمائهم”.

وأقام بورقيبة في القاهرة بدار الإخوان المسلمين في الحلمية. وروى توفيق الشاوي أحد قادة الرعيل الأول من حركة الإخوان المسلمين في كتابه مذكرات نصف قرن من العمل الإسلامي، أنّه كلف من قبل الحبيب بورقيبة المقيم بالقاهرة ومن جلولي فارس المقيم بفرنسا، في صيف 1948 بنقل رسائل شفوية ومكتوبة إلى قادة الحزب الدستوري، وبالفعل فقد وصل الشاوي في رحلة بحرية إلى تونس والتقى قادة الحزب في تونس الطاهر قيقة والطيب السحباني والمنجي سليم، كما التقى أيضا الباهي الأدغم.

وكان توفيق الشاوي، الإخواني، وسيطا بين الحزب الدستوري والجامعة العربية، حين توترت العلاقة بين الطرفين بسبب دخول الحزب التونسي في التفاوض مع فرنسا على استقلال تونس بمعزل عن القضية المغاربية، كما عمل الشاوي على إقناع ظفر الله خان وزير الخارجية الباكستانية بتقديم شكوى لدى الجمعية العامة للأمم المتحدة دفاعا عن القضية التونسية، بعدما أحجمت الدول العربية عن ذلك، وهو ما تم، وكلف أمين عام الجامعة العربية عبد الرحمن عزام، توفيق الشاوي بإعداد ملف الشكوى، فبادر إلى وضع قضية باي تونس المنفي “المنصف باي” ضمن بنود الشكوى، وكان من المفترض أن يكون الشاوي ضمن الوفد الباكستاني لعرض شكوى تونس أمام الأمم المتحدة، غير أنّ إدارة كلية الحقوق بالقاهرة رفضت الترخيص بسفره.
لقد احتفظ بورقيبة بودّه للإخوان وكان وفيّا شخصيا لهم، وكان ينتظر أن يدعموا “اجتهاداته” الدينية، فاستدعى توفيق الشاوي لتونس سنة 1960 ودعاه إلى القيروان ليحضر خطبته من على منبر جامع عقبة التي دعا فيها إلى الإفطار في رمضان. وكان بورقيبة ينتظر سندا من الزعيم الإخواني لاجتهاده، فلم يجده، ولم يصادمه الشاوي.

عبّر بورقيبة عن وفائه لتضامن الإخوان معه في معركة التحرير، فساندهم في محنتهم مساندة لم تكن مرتبطة بالضرورة بالصراع الناصري البورقيبي، فتضامن الحزب الاشتراكي الدستوري مع الإخوان المسلمين خلال محاكماتهم سنة 1966 ودافعت عنهم وسائل الإعلام التونسية ومجلس النواب. وكان إعدام قطب موضوع رسالة تنديد من الاتحاد القومي النسائي التونسي برئاسة راضية الحداد. ورسالة وجهها مفتي الجمهورية التونسية الفاضل ابن عاشور إلى جمال عبد الناصر. ولم يتحرج ابن عاشور أن يتحدث في تصريح لوكالة تونس إفريقيا للأنباء إثر تنفيذ حكم الإعدام في قطب، عن علاقته الشخصية بالرجل فقال: ” كان رجلا سامي القيمة متعدد نواحي العظمة، فهو زيادة على كونه مجاهدا كاملا في قضية الإسلام، كان إلى جانب ذلك شاعرا وكاتبا خياليا وقصصيا وناقدا أدبيا وحكيما إسلاميا وباحثا في الثقافة والاجتماع (…) وإنّي اعتدّ بالفقيد سيد قطب صديقا تربطني به صلات شخصية، زيادة على الاعتداد به مفكرا من مفكري الإسلام”.

ونشرت مجلة الفكر بإدارة الوزيرين السابقين محمد مزالي والبشير بن سلامة في عدد أكتوبر 1966 رسالة سيد قطب من سجنه إلى شقيقته، وقدّمت للنصّ على النحو الآتي: “الرجل صريع من أجل مبادئه وعقيدته.. إنّها شهادة إنسان في شؤون الإنسان الوجودية ودليل على الرجل يتمسك بما يعتقد فيناله العذاب والسجن.. فما بالك اليوم والرجل يستشهد من أجل ما يراه الحق ولا يفزع من الموت من فرط إيمانه”.

لم تنقطع علاقة بورقيبة بالإخوان من أواخر الأربعينات حتى بداية الثمانينات، ولم يوثق عن بورقيبة خطاب تهجم فيه على الإخوان المسلمين. وعلى خلاف بعض الذين ينسبون أنفسهم اليوم إلى البورقيبية، فإنّ الرجل لم يربط يوما بين إسلاميي تونس والإخوان، بل كان ينسبهم إلى الزيتونيين، بالنظر إلى وجود مشائخ مؤسسين للجماعة الإسلامية التونسية، معادين له.

وفي يوم 6 أفريل من كل عام، ذكرى وفاة الحبيب بورقيبة، يستعيد كل عام المتصدرون للحديث عن “الزعيم”، مفردات الصراع الإيديولوجي، العلماني الإسلامي، وينكرون أنّه كان في كامل وعيه واتقاد حيويته ونباهته النضالية، ضيف “المرشد” الإسلامي حسن البنا. وفي المعسكر الآخر، وفي جذوة المعركة الشخصية والوجودية يطرد “إخوة” حسن البنا، بورقيبة من بيت “الحلمية”، وربّما يكفّره البعض.

وقد آن لهؤلاء أن يحلّوا كثيرا من التناقضات التي شرعوا في فكّها، أسوة بنموذجهم التركي الفريد، فهل يقدرون على محو إرث البغضاء والعداوة كما فعل رجب طيب أردوغان الذي يزور سنويا ضريح مصطفى كمال أتاتورك، رمز العلمانية، في ذكرى وفاته، وأيضا، يستظل أردوغان الإسلامي بصورة أتاتورك، أبي الجمهورية، في اجتماعاته المكتبية، مدركا الرمزية الثابتة لأتاتورك لدى شعبه.

صورة تجمع بورقيبة بحسن البنا في أحد اجتماعات مكتب المغرب العربي بالقاهرة

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock