تدوينات تونسية

أين علم الإجتماع في تفكيرك يا دكتور سالم الأبيض ؟

نور الدين الغيلوفي
1. أنا أدّعي أنّني أفكّر خارج الغرف الإيديولوجية المغلَقَة.. أستميت في الدفاع عن البلاد وثورتها وحقوق الإنسان بها ولا أنتسب لغير ذلك.. قد يفاجئ قولي بعض أصدقائي وقد لا يصدّقه البعض الآخر.. ليس لي مشكل مع أيّ تيار سياسي، من المرجعيات السياسية المختلفة، يستهدف خدمة البلاد تحت سقف دستور الجمهورية الثانية لأنّني أتوقع من الجميع أن يتنافسوا في خدمة الناس لا في التحكّم فيهم.. والانتخابات، كما أفهمها، إجراء ديمقراطي يقتضي التزاما بشروطه وقبولا بنتائجه.. ليس لأحد أن يقصيَ أحدًا وليس لأيّ كان أن يدّعيَ لنفسه عصمة ليست لغيره.. ومن لا يدافع عمّن يخالفه لا يُعتدُّ به…
2. من المرجعيات ما لا تجري عليه قوانين التغّير والتأثّر والتأثير.. فهي مرجعيات لازمة لنفسها لا خصوبة لها ولا تعدية لأفعالها، مرجعيات محكومة بالمطلقات لأنها صُنعت في مربّعات التسلّط (بعض الأفكار نشأت في محيط نظام سياسيّ ما، لا يمكن بالمرّة الزعمُ بأنه ديمقراطي).. كِلْ ما شئت، من المدائح والأذكار، للرئيس جمال عبد الناصر، رحمه الله، ولكنك لا يمكن أن تقنع أحدا بأنه كان حاكما ديمقراطيا.. وقل الأمر نفسه في شأن العقيد معمّر القذّافي رحمه الله.. وفي الرئيس حافظ الأسد، رحمه الله، وفي خليفته على السوريين من بعده ابنه بشار بن حافظ الأسد.. وفي الرئيس الشهيد المرحوم صدّام حسين.. وفي الرئيس اليمنيّ علي عبد الله صالح.. كلّ هؤلاء لم يكونوا ديمقراطيين بالمرّة.. والكلّ يعلم كم بطشوا بمخالفيهم.. نكّلوا بهم داخل السجون ولاحقوهم بالتشويه خارجها مستعملين مختلف مرافق الدول التي حكموها.. فنشأت لمخالفيهم صور محكومة بسرديات وضعوها هم بهدف تشويههم لأجل التخلّص منهم.. وأظنّ أنّه ليس من الموضوعية أن تستند، في حكمك على عائلة سياسية ما، إلى سردية صنعتها سلطة معادية لهم وإلّا كنتَ لها ظالما وعليها متجنيا.. غير أن المنتسبين لتلك الأنظمة العربيّة المتداعية لا يكادون يخرجون عن كونهم أتباعا لأحد هؤلاء الرؤساء بشكل ما من الأشكال ناصريين كانوا أو بعثيين أو لجانا ثورية…
3. كنت أظنّ أن أكاديميا على شاكلة وزير التربية الأسبق، في عهد حكم الترويكا بقيادة حزب حركة النهضة الإسلامي السياسيّ، الدكتور سالم الأبيض الذي دَرَسَ العلوم الاجتماعية ودرّسها بالجامعة التونسية، كنت أظنّ أنّه قد تطوّر باتّجاه الموضوعية في تحاليله واقترب من العلميّة في أحكامه بفضل ما اطّلع عليه من مناهج وأفكار، غير أنّه كلّما تكلّم أو كتب أفسد ظنّي وألفيته قد عاد إلى مربّعه الإيديولوجيّ الأوّل الذي كان يتحدث داخله لمّا كان طالبا في قسم علم الاجتماع يتكلم باسم الطلبة القوميين العرب…
4. نشر الدكتور سالم لبيض يوم 25 أفريل 2018 بصحيفة العربي الجديد المقرَّبة من تيّار الإسلام السياسيّ مقالا عنوانه “عن الإسلاميين والحكم المحلي في تونس”… ولمّا قرأت المقال وجدت به مقدّمة طويلة نسبيا إذا نظرنا في كلّ المقال لم يتجاوز فيها الكاتب وصفا لوقائع تاريخية مشوبا بأحكام انطباعية لا ترقى إلى الموضوعية لم يستطع فيها إخفاء مواقفه الإيديولوجية من حركة النهضة التي اندفع إلى إصدار أحكامه عليها مسكونا بهواجس علقته من زمن شبابه لمّا كان طالبا منتشيا بنظرية الثورة العربية التي وضعها المرحوم المحامي عصمت سيف الدولة…
5. قرأت المقال فألفيته يدور حول سجلّ قديم لا موضوعية فيه، إحكتم فيه الرجل إلى سردية النظام الذي قامت عليه الثورة.. فإذا كلّ مرحلة حكم بن علي لا تعدو كونها حقبة “من النزاعات الدموية والصراع على السلطة” بين بن علي والإسلاميين.. فبن علي لم يكن مستبدا ولا فاسدا عند الدكتور سالم لبيض.. وكان كلّ ما فعله نزاعا مع الإسلاميين، دون غيرهم، في سياق حرب على السلطة بين فصيلين: فصيل مهاجم يستهدف تقويض الدولة يمثّله الإسلاميون، وفصيل مدافع يطلب حماية الدولة يمثّله بن علي ونظامه!.. وقد انطلق هجوم الإسلاميين على السلطة حسب قراءة الدكتور سالم لبيض مع “انتخابات 1989 التشريعية التي يعتبرها الإسلاميون دون غيرهم، مزوّرة ومدخلا نحو الحكم الاستبدادي الذي استمر عشريتين كاملتين”.. وحدهم الإسلاميون يرون انتخابات 1989 مزوَّرة.. ووحدهم يعدّونها مدخلا نحو الحكم الاستبدادي الذي استمر عشريتين كاملتين”.. هذا هو منطوق خطاب الدكتور سالم لبيض في مقاله المذكور…
6. ولمّا كان الإسلاميون دون سواهم يخوضون صراعاتهم من أجل الحكم فإنّ حركة النهضة الإسلامية قد تحوّلت في فهم الدكتور سالم إلى وحش لا يشبع من السلطة.. وقد تدرّبت دون غيرها منذ 1989 على لعبة الانتاخابات طريقها الوحيد الذي “تنقضّ” به على السلطة من أجل ممارسة الحكم، في حين ظل منافسوها يعانون ضعفا ناجما عن “انعدام خبرتهم الانتخابية، وعجزهم الاتصالي والدعائي وفقدانهم القدرات اللوجستية والمالية التي تمكّنهم من الوصول إلى الناخب، وإقناعه ببرامجهم ورؤاهم المستقبلية”.. وقد عبّر الرجل عن وثوقه من أن حزب حركة النهضة في طريق مفتوح للفوز بنتائج الانتخابات البلدية، مستدلاّ على ذلك بمؤشّرات منها أنه “اختار المشاركة في الانتخابات البلدية، والترشح في كل الدوائر، وعددها 350 دائرة”، واستنتج من ذلك أنّ “هذا الحزب سيكون ممثلا في كل المجالس البلدية، ناهيك أنه سيحتكر بعض الدوائر بمفرده”…
7. ولما كان هذا الاستنتاج قد آلمه فإنه راح يبحث عن حجج ينغّص بها الأمر على حركة النهضة تخفيفا عن نفسه، هذا إذا لم نقل إن الرجل يسعى سعيا محموما إلى تنبيه دوائر بعينها من خطورة المآل إن تمّت الانتخابات وفازت بها حركة النهضة.. وهو في ذلك لا يكاد يختلف عن صرخة ذلك النائب الذي تمنّى في حوار إذاعي أن يفيق صباحا على أنغام بيان أوّل يأذن بخلاصه من كابوس الانتقال الديمقراطي الذي لولاه لما سمع به الناس خارج حلقات بعض المسلسلات التي يؤدّي فيها دورا يأتي به شهر رمضان…
8. في تحليل استباقي يستهدف مصادرة الانتخابات ذكر الدكتور سالم “أربع تجارب انتخابية لها مآلات مجتمعية دقيقة” انتهى منها إلى خلاصة مفادها أنّ فوز الإسلاميين بالانتخابات “ينفتح على مثل تلك الاحتمالات المأساوية القابلة للتكرار والمعاودة”!!!
عند هذه النتيجة يضطرب العقل ويصطدم الفهم بجدار سميك وتتساءل: أين علم الاجتماع في ما يكتب الرجل؟ وأين الفكر والعقل عند أكاديمي كان ينبغي أن يتعالى على أوجاعه الإيديولوجية ويدافع عن حقّ البلاد في تحقيق استحقاقات ثورتها والمرور إلى انتخابات الحكم المحلّي التي تبشّر بمرحلة جديدة من تاريخها تقطع فيها مع الحكم المركزي الذي تعذّرت معه التنمية واستحالت العدالة؟ هل يدعونا النائب المحترم إلى التخلّي عن الانتخابات إلى حين ينقرض الإسلاميون من البلاد ويختفوا من التنافس على خدمة الوطن؟ هل يحذّر الرجل من الانتخابات أم من نتائجها؟ أم تراه يطالب بإرجائها ما دام “المناخ الإقليمي والدولي لم يقبل بالإسلاميين بعد؟
9. متى يثوب الفرقاء الإيديولوجيون إلى عقولهم ويكفّوا عن هذا التهافت الذي لا ينسف غير صور لهم لمعت مع ثورة شعبنا على الظلم والفساد؟ ما مشكلة الدكتور سالم لبيض مع حركة النهضة؟ هل يعيب حركة النهضة أنها حركة جماهيرية قادرة على ترشيح أنصارها في مختلف الدوائر البلدية؟ أيّها أولى بالنقد يا دكتور سالم، الأحزاب التي عجزت عن إقناع الناس ببرامجها وأفكارها أم الحزب الذي له في كلّ ناحية أنصار؟ لماذا يصرّ بعض المثقفين في بلادنا على إنتاج السخف والإصرار عليه في لحظة ثورية يُفترَض أنها علمتنا الاحتفاء بالخلاف والانفلات من الدوغمائيات المثقِلة؟

اترك رد

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock