تدوينات تونسية

قصّةُ “البَلْدِيَّة” و”البَخُّوش”

بشير العبيدي
#رقصة_اليراع
أيّامَ طفولتي في تونس، كان لحياة الشّظفِ وعنف الفقر، وقلّة الدّراية وقعًا وأثرًا على نفسي، كمثل وقع وأثر الوشم على ظاهر اليد. فلم أكن لتمرّ عليّ حادثة، من كبير ما يحدث للناس من نوازل الدهر أو حقيره، إلا طمرتُ ذلك في ركن من أركان ذاكرتي.
ودارت الأيام حتى تعتّقت تلك الذكريات واستحالت إلى إكسيرٍ، ثم جاءت اللغة العربيّة الرائعة البهيّة، فأعطت لكل جُزيءٍ من إكسير الذكريات كلمةً، وصارت الكلمات تكافح، فهذه كَلِمةٌ تَدْفَعُ ألَمًا .. وهذه كَلِمةٌ تَصْنَعُ أمَلًا، كلماتٌ أكتبها سوادًا حالكا في بياضٍ ناصع ويقرؤها النَّاسُ بياضا لامعا في سواد قاتمٍ، ولسان الحال ينطق بما نطق به الْوَزِيرُ عَبْدُ الْحَمِيدِ الغزنوي
: | وَلِي خَطٌّ وَلِلأَيَّامِ خَطٌّ | وَبَيْنَهُمَا مُخَالَفَةُ الْمِدَادِ | فَأَكْتُبُهُ سَوَادًا فِي بَيَاضٍ | وَتَكْتُبُهُ بَيَاضًا فِي سوادِ |
وكان من لياع الأيام التي مرّت بي، حين اقتلعني أهلي من مسقط رأسي أعالي مدينة أوتيك شمالي تونس، وارتحلوا فجأة ذات يوم إلى بلدة أخرى بعيدة اسمها “أمّ هاني”، تقع على أكناف مدينة “المنزل”، تلك المدينة الجريحة النّائمة بين ضفاف بحيرة بنزرت وضفاف بحيرة “اشكل”. في البلدة الجديدة، سكنّا في كوخ متهالك يقع على مرمى حجر بالمقلاع من بيت آخر فخم من الحجارة، جميل المظهر، أبيض اللون، منسّق متّسق، تحيط به الأشجار من كلّ جانب. وكان يسكن في ذلك البيت الفخم رجل مسؤول في المعهد الثانوي المجاور، يعيش وزوجته وأولاده الأربعة. وكانت عائلة هؤلاء الجيران من بين أولئك الذين يسمّيهم التونسيّون “البَلْديَّة”، بسكون اللام، ويقصدون بهم أصحاب البيوتات من المدن، أهل الحضر والحضارة والثّقافة والمدنيّة. وكانت ربّة بيت ذلك البيت نسمّيها “البَلْديَّة” اختصارًا.
وغني عن القول أنه بين عالمي وأسرتي في كوخنا وعالم “البَلْديَّة” في منزلهم، هو على نحو ما بين المشارق والمغارب. فعلى طول زمان جوارنا، كنّا ننظر إليهم على أنهم يسكنون في قصر “الخورنق”، وهم ينظرون إلينا على أنّنا من مهمّشي الأكواخ. فلم يدخل “البَلْديَّة” يوما إلى بيتنا ولا حضروا لنا محفلا ولا مأتما ولا حفلوا بنا، ولم يكن بنا مطمع أن ندعى إلى فرح “البَلْديَّة” أو ترحهم، وكم كنّا نأمل ذلك ونكره في آن. وكانت تقتصر العلاقة بينا الجارين على أن ينادوننا من شرفة منزلهم أحيانا، كي نبيعهم البيض والدجاج والحليب الذي يسمّونه “العَرْبيّ”، نسبة إلى الأعراب، فقد كانوا لا يشترون إلا من عندنا لاستحسانهم تلك البضاعة، ويعطوننا دريهمات لقاء ذلك، كنا نرتّق بها رقع الأيام.
ولقد حاولت أن أتخيّل ما بداخل منزل “البَلْديَّة” من أثاث، وأقارن بأثاث بيتنا المتهالك البسيط، وحاولت أن أقارن أكلهم إلى أكلنا، وفراشهم إلى فراشنا، ولباسهم إلى لباسنا وأتساءل دوما : ما الذي يجعل “البَلْديَّة” يتكبّرون علينا كل هذا التكبّر، وينتفخون علينا انتفاخ الديكة، وينظرون إلينا من علٍ؟ ما السّر في أنني كنت لا أجرؤ على الاقتراب من منزلهم، وإذا مررت لا أقدر على الالتفات، وإذا تكلمت معهم شعرت بغصّة في الحلق؟ ما بالهم يسخرون من لهجتي، ويكلمونني غالبا بكلام نصفه فرنساوي لا أفهمه؟ من أين جاؤوا وما قصتهم؟ لماذا لا يشبهوننا وبشرتهم بيضاء وشحمة وجناتهم حمراء وأسنانهم بيضاء وألبستهم ربداء؟ ثم أموتُ بكيّة من لا يجد الجواب.
وكلّ ما أمكنني معرفته من أسرار جيراني من “البَلْديَّة”، أنهم كانوا ـ على تحضّرهم المفترض ومسؤوليتهم التربوية في معهد ثانوي ـ يرمون بقمامة منزلهم قرب منزلنا، فكنت أمرّ على تلك القمامة أحيانا وأنظر فيها فأرى أشياء وغرائب : فهذه رؤوس سمك عجيبة، ومحارٌ لا أعرف له في العربيّة اسمًا، وهذه بقايا خروف مذبوح، وهذه فضلات أرز بالفواكه الجافة، و وهذه علب قوارير للعطور الفرنسية، وهذه قشور الجلبان، وهذه بقايا مكسّرات اللوز وقشور الفستق، وهذه علب الحليب المصبّر المستورد “نستلي”، وهذه قوارير عجيبة الأشكال والألوان، وهذه عبوات الجعة، وهلم جرّا. غير أنني لم أعجب كعجبي من وجود بقايا حيوان يبدو أن “البَلْديَّة” لهم به ولع شديد، ولم أر له شبها قط في حياتي، ولا أعرف إن كان من أسماك البحر أو من دواب الأرض أو من طيور السماء : إنها رؤوس وذيول وقشور وردية اللون، شفافة، لها أرجل طويلة جدا وكثيرة، وما يشبه أجنحة أو زعانف، وعيونها جاحظة مكوّرة سوداء كأنها حبوب الجلبان المسوّس، قلّبتها مرارًا وتكرارًا بعودٍ في يدي، فما عرفتها، فقلتُ يوما لأمي، وقد حملتُ لها منه “عيّنة” : أمّاه، لقد وجدت في قمامة “البَلْديَّة” أنهم يأكلون “البَخُّوش” !!. و”البَخُّوش” لفظ بربريٌّ على الأرجح، يُطلق على الحشرة والدّويّبة الصغيرة والمتوسّطة الحجم. وأريتُ أمّي من تلك البقايا، فقلّبتها وما عرفت منها شيئًا من خليقة أو صنيعة، وقالت لعله يجوز أن يكون “بَخُّوشاً” من الهوامّ التي يأكلونها، وقالت ساخرة : هؤلاء “البَلْديَّة” يأكلون حتى رؤوس البهائم”، فهم بفنون المأكولات وكيفية عملها أدرى.. وظللتُ على قناعتي أن “البَلْديَّة” يأكلون “البَخُّوش”، حتى كان بعد سنوات ذهبتُ إلى تونس العاصمة في مصيبة، فمُرَّ بي من السوق المركزية، فرأيت فيه منه، فسألتُ بيّاعا فقال لي إنه : “الكروفات”، بالفرنسية، فبحثتُ في المعاجم عن اللفظ، حتى اهتديتُ، بعد لأيٍ، إلى أنه القُريدس بالعربية ، أو الجمبري، وغلاء ثمنه سبب ندرته.
وكانت جارتنا “البَلْديَّة” لا أراها تضحك أو تبتسم أبدا. أنفها معلّق دوما على قمة جبل اشكل المقابل العائم في البحيرة، تلبس الكعب العالي، وتلوّن أظافر قدميها بلون يناسب لون حذائها. وما جعلني أتثبت في أظافر قدميها، هو أنني ما كنت أجرؤ أن أنظر في وجهها ولا في أعلى قامتها، فهي لا تنظر إليّ ولا تحفل بمروري إلا حين آتيها بالبيض أو الحليب أو الدجاج. كانت تقف على الشرفة العالية، وحين أقترب لأخذ القطع النقدية، يكون رأسي دوما في مستوى رجيلها في الشرفة، فحين أحسّ حدسا أنها تحرّك يدها لمدّي بالقطع، أمدّ يدي، كراهة أن أكون أوّل من يمدّ يده. ولقد أعطتني مرّة كيسا من الملابس القديمة وقالت : أعط هذا لأمك. فالتففنا حول الكيس في بيتنا لنرى، وفتحناه فإذا به ملابس قديمة لأولادها تكرّمتْ بها علينا، جزاها الله أعظم الجزاء. وكان من بينها سراويل قديمة متهالكة، كم كنت أُعجب بجودتها حين كان يلبسها أولادها. أعطتني أمّي منها سروالا وفرّقت البقية على إخوتي، فلم ألبس ذلك السروال خوفا أن يعترضني ابنها يوما ويقول لي : أرجع لي سروالي !! كذا كنتُ أفكر في رأسي، على أنّ إرجاع سروال جاري “البَلْديّ” لم يكن عندي قمّة الفضيحة، لأن الأشدّ من ذلك مما كنت أخشاه، هو أنني ما كنت ألبس شيئا تحت السّروال. فكان في تفكيري، لو طالب ابن “البَلْديَّة” بسرواله أمام الناس، فكيف عليّ أن أفعل؟؟؟ لقد كان ذلك يرهبني جدّا. فتركتُ السّروال حتى اتخذتْ منه أمي جعالةً لقدرها.
ثم إن “البَلْديَّة” لها ملحٌ أخرى كثيرة، ولا أشك أبدا أن لجارتنا “البَلْديَّة” ملحا عنّا أيضا ترويها في سمرها. فلكل عالمه. والكل يظن أنه مركز العالم. ومن بين الملح التي عندي على جارتنا “البَلْديَّة”، أنه حين كان يداهمنا الصيف بحرّه، تخرج “البَلْديَّة” بلباس عجيب. ففي إحدى المرّات كنتُ مارّا من مكان قريب من بيتها، فرأيتها تمشي نحو سيّارتها المركونة في ناحية، وقد لبستْ سروالا ضيّقا جدّا وهي بدينة مليئة بالشحم، وفي الأعلى لبست شيئا شفافا، وهي تكلم زوجها بلغة لا أفهمها، غلث بين عربي وفرنسي، فاستحييتُ وهربتُ أجري أخبر أهلي أن “البَلْديَّة” تمشي شبه عريانة في الشارع المقابل لمنزلها، فدعت عليها أختي الكبرى “بكبِّ السّعدِ وتحميمِ الوعدِ” … لأنه في عوائد حيّنا التي لم تكن جارتنا “البَلْديَّة” تأبه لها، لم تكن تجرؤ امرأة متزوجة أن تخرج عارية الرأس، فكيف هذه تكاد تخرج شبه عارية الجسد؟
وما كنتُ أفهمُ سببا لذلك الذي عشته مع جيراننا من “البَلْديَّة”، حتى نضجتُ شيئا ما، وعرفتُ أن جارتنا تلك هي من وسط اجتماعي مختلف عن وسطي، فهم من أهل المدن وأصحاب السّلطة والمال، ممن توارثوا أبا عن جدّ مسؤولية الشأن العام في تونس، منذ عهود متراكبة متراكمة، وأن أكثرهم يعملون في كبرى الإدارات والدواوين والكتابات والوزارات والشركات والمشاريع، وأولادهم يعيشون في كنفهم ويرثون عوائدهم، وأنهم من أحرص الناس على بقاء الأوضاع على ما هي عليه … فلماذا نغيّر الأشياء الممتعة المناسبة؟
ولقد تذكرت أيامنا هذه قصّة “البَلْديَّة” وما كان من أمر “البَخُّوش”، حين دعاني صديقٌ لي من الوزراء في الحكومة التونسية إلى مكتبه بقصر الحكومة بالقصبة. لقد دخلت إلى ذلك القصر العريق حيث لم يكن أحد ممن عاش قصصا شبيهة بقصة “البَخُّوش” أن يقترب منه، فضلا على أن يدخله ويشرب عصير الليمون في مكتب وزير في حكومة منتخبة، اختارها شعب يريد أن يطوي صفحة ويفتح أخرى. جلست في ذلك القصر وتجولت في أجنحته… ورأيت الكثير الكثير وشممت الكثير من عبق التاريخ. ولقد زرت بالمناسبة نفسها قصرا آخر في باردو، هو قصر مجلس المستشارين سابقا، وبعد جولة، مررت بالقاعة الشرفية، وتصادفت مع مرآة كبيرة في تلك القاعة، فنظرت في وجهي في المرآة وقلتُ : أنا هو “البَخُّوش” حقّا… وليس حيوان القريدس. فأكثر شعب تونس عاش حياة “البَخُّوش” طيلة الخمسين سنة الماضية. كان الكثير من الحاكمين ينظرون إلى هذا الشعب الطيب المسالم كأنهم ينظرون إلى حشرة “البَخُّوش”. فنشأ عند عموم الناس ذلك الشعور بالاحتقار والإهانة. احتقار يظهر في اللغة واستنقاص من لا ينطق القاف كما كانت تنطقها جارتي. احتقار يظهر في الإعلام وإبانة أهل تونس من أوساط داخل البلاد على أنهم جهلة متخلفون و”بوجادية” وأولاد الجبل والهمل والشعر المليء بالقمل.
أفلا يكون الصّراع الذي يدور اليوم في تونس فيه من رفض أبناء “البَخُّوش” الشيء الكثير؟ كيف يمكن أن نجبر البعض على قبول فكرة أن يختار الناس بحرية أن يحكمهم رهط من “البَخُّوش” بحسب الأغلبية، على أن يفهم المنتَخَبون والمنتَخِبون أنه لا يمكن أبدا أن يُحكم بلد إلا بجميع فئاته دون تمييز ومحسوبية وحقوق تاريخية؟ كيف نقنع الخاسرين من الثورة التونسية أنهم إذا كانوا اليوم يتحركون من أجل قلب المعادلة، فإن حركتهم ستكون في غير صالحهم وأن الأصلح لحالهم هو الأصلح لتونس والعرب كلها، أي : عقد اجتماعي وسياسي وثقافي جديد يكون أكثر عدلا وإنصافا وتوازنا؟ كيف يمكن أن يقبل الناس في زماننا أن ينشأ احترام متبادل بين الجيران، سواء “البَلْديَّة” منهم أم “البَخاخش”، بلا أنانية وفي كنف احترام الذاتية والاختلاف والتراحم والانسجام والمحبة؟ لماذا ينشأ الطفل في عالم “البَخُّوش” معقّدا من أصله وأهله ولهجته وعاداته ولا يعتزّ بها كما يعتز غيره بما ورثه من عوائد وثقافات عن آبائه؟
تلك أسئلة كثيرة دارت برأسي، وأنا أغادر القصور عائدا إلى عالم “البَخُّوش” حيث نشأت. وكنت مهموما أن نجد جسرًا ما بين العالمين. ولعل أول لبنة في ذلك الجسر، يكون الاعتراف بوجود المشكلة، أولا وقبل كلّ شيء.
#بشير_العبيدي | رجب 1439 | كَلِمةٌ تَدْفَعُ ألَمًا وكَلِمةٌ تَصْنَعُ أمَلًا |

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock