تدوينات تونسية

دفاعا عن الجمهورية الثانية (1)

عادل بن عبد الله
لعلّ من أهم الأحداث التي أسفرت عنها الثورة التونسية هو انكسار الحقل السياسي الاستبدادي من جهة أولى، ودخول الإسلاميين -خاصة حركة النهضة- شريكا قانونيا لبقية الفاعلين في الحقل السياسي “المُعلمن” من جهة ثانية. وقد مثّل وصول حركة النهضة إلى الحكم ضربا من “الرضة” النفسية والفكرية التي أربكت خصومها وأعداءها حلال المرحلة التأسيسية وبعدها، ولكنّ وضعية الحركة الجديدة أربكت أيضا البيت النهضوي الداخلي، وأبرزت جملة من الصراعات والتناقضات المرتبطة بمراكز القوى الجهوية والتنظيمية والإيديولوجية المهيمنة على الحركة.
بعيدا عن الشخصنة والاختزالية، قد نحتاج في فهم الحركية الداخلية للنهضة وفي فهم علاقاتها بباقي الشركاء والخصوم؛ إلى تخيّر شخصية نموذجية نجعلها مدخلا لقراءة المشهد التونسي بمساراته وانكساراته، بمواضع القوة والضعف التي وصل إليها الوضع العام منذ رحيل المخلوع إلى يومنا هذا. وهي قراءة سنحاول أن ندافع فيها عن الجمهورية الثانية باعتبارها أفقا مفهوميا ومؤسساتيا ممكنا -وليس حتميا- للفعل الجماعي بمختلف حقوله ومؤسساته. وقد اخترت في هذا المقال السيد لطفي زيتون المستشار السياسي لرئسس حركة النهضة لأطرح انطلاقا من شخصيته “الإشكالية” جملة من القضايا المرتبطة بالشأن العام التونسي، ذلك الشأن العام الذي لا ينفصل من جهة أولى عن توازنات القوة المتحولة داخل النهضة وبينها وبين خصومها/ أعدائها، كما لا ينفصل من جهة ثانية عن بعض الاستراتيجيات الإقليمية والدولية المتربّصة بالثورات العربية، وبكل ما قد تُمثله من تحدّ للنظام العالمي ولتوازنات القوة التي تحكمه اقتصاديا وثقافيا.
إنني لا أطرح على نفسي في هذا المقال أن أنخرط في الصراعات السياسية الحالية أو أن أنحاز إلي أي طرف فيها، سواء تلك الصراعات التنظيمية داخل حركة النهضة أو تلك الصراعات التي تواجه فيها النهضة خصومها في “العائلة الديمقراطية”، ولكنني أطرح على نفسي تفكيك الخطابات المتصارعة وإجبارها على مواجهة المسكوت عنه والمقموع واللامفكر فيه داخلها. أي إنني أطرح على نفسي الوقوف على البنى العميقة للخطابات المتصارعة، وعلى تناقضاتها الداخلية، وهو ما يعني بالضرورة عدم التقيد بملفوظاتها وخياراتها “الواعية” والتشكيك في ادعاءاتها الذاتية، وهو ما يعني أيضا عدم الخضوع لما تمارسه تلك الخطابات من “إرهاب لغوي” أو حتى مؤسساتي، بقصد إخراج ملفوظاتها من دائرة النقد والتقييم وإظهارها بصورة النظام التام/ المغلق وغير القابل بالتالي للنقض أو المراجعة.
قد لا يكون لطفي زيتون أكثر الشخصيات السجالية داخل الحقل السياسي التونسي بعد الثورة، ولكنه لا محالة من أكثر الشخصيات التي تصنع الجدل العام عقب كل ظهور إعلامي. وهو سجال لا ينحصر في الدائرة النهضوية، بل يفيض ليشمل دائرة “العائلة الديمقراطية” بجناحيها التجمعي واليساري، تلك “العائلة” التي يُتهم لطفي زيتون بالتماهي معها ومع أساطيرها المؤسسة لما يُسمّى بـ”النمط المجتمعي التونسي”، ولكنها تتهمه هي الأخرى باعتماد “التقيّة” والانضواء استراتيجيا داخل المشروع “الإخواني” بصرف النظر عن مواقفه “التكتيكية”. وتتأتى أهمية هذه الشخصية السياسية، في تقديري المتواضع، من الطريقة “الإشكالية” التي جمع بها في شخصه بين ثلاثة مسارات متعامدة حينا ومتنابذة أحيانا، ألا وهي المسارات التالية: مسار حركة النهضة، تنظيميا وفكريا، قبل الثورة وبعدها، مسار الثورة واستحقاقاتها الإجماعية والخلافية، مسار “العائلة الديمقراطية” وعلاقتها بالإسلاميين بصفة عامة، وبالنهضويين بصفة خاصة.
وقد بلغ الجدل المرتبط بهذه الشخصية في المرحلة الأخيرة درجة خطيرة بعد تدوينة لقيادي نهضوي هو السيد لطفي العمدوني، وهو جدل أوجد مخاوف جدية على حياة السيد لطفي زيتون، ولكنه في الوقت نفسه أوجد ضرورة معرفية وسياسية للتعامل العميق مع هذه الشخصية، بعيدا عن التسطيح الإعلامي والتوظيفات الحزبية والأيديولوجية الضيقة. ولمّا كان طرح كل القضايا “الخلافية” التي يثيرها السيد لطفي زيتون أمرا لا يسعه هذا المقال بجزئيه، فقد ارتأيت الاجتزاء بقضيتين رجح عندي قدرتهما التمثيلية لباقي القضايا: قضية المساواة في الميراث بين الجنسين، باعتبار فرض المساواة مقترحا من المقترحات التي تنظر فيها “لجنة الحريات الفردية والمساواة” برئاسة السيدة بشرى بالحاج حميدة، وقضية العدالة الانتقالية، باعتبار المأزق الذي وصلت إليه هيئة الحقيقة والكرامة برئاسة السيدة سهام بن سدرين.
وسأحاول في الجزء الثاني من هذا المقال أن أجيب على بعض الإشكاليات المتصلة بهاتين القضيتين انطلاقا من الأسئلة التوجيهية التالية:
• ما هو المسكوت عنه واللامفكر عند المهاجمين للسيد لطفي زيتون والمدافعين عنه، سواء أكانوا من الإسلاميين أو من “الحداثيين”؟ وما هي بياضات الخطاب لدى السيد لطفي زيتون ذاته؟ وما مقدار الهوّة التي قد تفصل بين ملفوظه ومقصوده، وهو الأمر الذي يطرح إشكالية البعد الاتصالي “الهش” لدى النهضويين بصفة عامة؟
• كيف تعكس تدخلات السيد لطفي زيتون، وتفاعلات “إخوانه” داخل الحركة أو تفاعلات “حلفائه” و”خصومه” خارجها، مرحلة الانتقال من الأيديولوجيات النسقية إلى الأيديوجيات المفتوحة أو السائلة، إن شئنا استعارة شبكة زيغمونت باومان المفهومية؟
• انطلاقا من تدوينة السيد لطفي العمدوني، ماذا ينقم العقل “الإخواني” (المسكون إلى هاته اللحظة بـ”المشروع الإسلامي” وبسردية “المظلومية”) على السيد لطفي زيتون؟ وما هي طبيعة علاقة هذا الأخير بانتظارات هذه الشريحة من قواعد النهضة وقياداتها، وهو ما يطرح قضية موازين القوى بين النهضة وشركائها/ خصومها من جهة أولى، وعلاقة ذلك كله -من جهة ثانية- بخيار الحركة الاستراتيجي والقاضي بالتحول من اليمين إلى الوسط، ودخول “الدولة” وعدم التحرك ضدها أو الاكتفاء بهوامشها المقموعة والمهمّشة؟
• هل يُمثل السيد لطفي زيتون قوة حقيقية ومستقلة داخل الحركة، أو قوة “موازية” للهياكل الشرعية”، أم إن التعامل معه بهذه الصيغة وإعطاءه كل هذه السلطة هو استراتيجية تخدم عدة أطراف أولها رئيس الحركة (انطلاقا من الاستعارة الرعوية التي تقول بصلاح ولي الأمر وفساد بطانته، وهو ما يعني تبرئة “الشيخ” وشيطنة سواه) وثانيها المكتب التنفيذي (لأن حصر النقد الموجّه لبعض مواقف الحركة في شخص السيد لطفي زيتون يبقيها في حالة طهورية ثورية وشرعية، وهي طهورية نعتبر أن القيادات المتنفسة على وراثة الشيخ في أمس الحاجة إليها أمام قواعد الحركة خاصة)؟
• إلى أي حد تعكس مواقف السيد لطفي زيتون في قضيتي الميراث والعدالة الانتقالية؛ التحولات الفكرية والتنظيمية لحركة النهضة بعد مؤتمرها الأخير، بل إلى أي حد تعكس تلك المواقف خيارات الحركة منذ المرحلة التأسيسية (وهي خيارات لا يمكن إلا بضرب من الوهم الذاتي أو الإيهام المتعمد للآخر أن ندافع عن طابعها “الشرعي” من منظور فقهي تقليدي، أو عن طابعها الثوري بل حتى الإصلاحي)، أو بالأحرى أين يمكن موضعة مواقف السيد زيتون في التحولات الفكرية والسياسية داخل الحركة، وفي مشروع “الجمهورية الثانية” بصفة عامة؟
• لماذا يتوجّس سدنة “النمط المجتمعي التونسي” خيفة من السيد لطفي زيتون رغم أنه أكثر أبناء حركة النهضة تماهيا مع أساطيرهم التأسيسية، بل أكثرهم التزاما بمنطق “الدولة” حتى عندما يخالف انتظارات النهضويين قبل سواهم؟ وهل لانكسار الصورة النمطية للإسلامي المعادي للدولة، الرافض لمنطق الشريك والمصرّ على منطق البديل، دور تكريس هذا الموقف؟ وهل يمكننا أن نتحدث عن “محاور حقيقي” للسيد لطفي زيتون في الجهة العلمانية حتى بين حلفاء الحركة داخل نداء تونس؟ أم إنه لا يواجه هناك إلا باستراتيجيات معادية تحاول توظيفه ضمن أجنداتها الخاصة لا ضمن أجندة وطنية جامعة؟
“عربي21”

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock