تدوينات تونسية

متى نكفّ عن أن نكون عربا ؟

نور الدين الغيلوفي
لا أحفل بأقوال المنجّمين.. ما بقي لي غير الطبيب يعرف ما لا أعرف من شؤون الجسد.. وحده القادر على قراءة كتابه وفكّ طلاسمه.. أمّا الروح فمن أمر ربّي.. وما أوتيتُ من العلم إلّا قليلا…
صحبت ابني، يهاجمه النموّ عند ركبتيه، عند طبيب العظام.. الطبيب عند منعطف العمر تطرق الشيخوخة بابه فيردّها على مهل.. يحاصر بعلمه حتم الزمان.. فهو لا يزال يحفظ من علمه أشياء.. وأشياء.. قبل أن يُرَدَّ إلى “أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا”…
بدأ الطبيب فحوصه.. حاور الفتى ببيداغوجيا لافتة.. أحسن إصغاءه إليه.. جعل له من المحادثة مفتاحا أعمله في قراءته لمواطن الوجع.. عليم خبير لا يترك شاردة ولا واردة…
ولمّا جاء دوري في الحديث عاتبني برفق وقد علم أن زمنا مضى على بداية شكوى الفتى من الوجع.. قال: العرب..! ذاك شأنهم مع الجسد.. لا يلتفتون إلى أعطابه حتّى تستفحل.. ورماني بعبارة لا تزال تطرق رأسي كمطرقة من حديد.. قال: “لن نتقدّم حتّى نكفّ عن أن نكون عربا”…
آي.. هل بتنا، نحن العرب، عبئا على حركة هي من طبع التاريخ؟ هل بتنا عقبة في طريق التقدّم فعلًا؟
وكانت تلك هي الضربة الأولى..
في اللحظة الثانية مضيت إلى مركز التصوير الطبّي.. كان الطبيب هذه المرّة تلمذا لي.. درّسته عند منعطف الشباب الأوّل.. لمّا كانت قوادم العمر لا تزال لنا ركابا.. ما أجمل أن تجد في الطريق بعض ثمرك يزيل من تعبك.. بِرًّا وَفَاءً.. لقد خفّ عنّي ما كان من وقع الضربة الأولى..
أجزل لي الدكتور النصح وأغرقني ببرّه حتّى كدت أستغني عن ختم الملفّ مع الطبيب الأوّل.. ولكن كان لا بدّ من العوْد..
عدت إلى الطبيب الشيخ.. بعد أن طمأنني على الفتى أخد يجادلني في التعليم وقد علم من الفتى بأمر تعليق الدروس.. قال لي:
“كنّا فقراء ورغم ذلك تفوّقنا بفضل المدرسة العموميّة”، والعبارات له.. ما الذي يجري للتعليم في بلادنا؟ لماذا يجعلون من أبنائنا دروعا لعراكهم الذي لا ينتهي؟.. أما آن لهم أن يتعاركوا بعيدا عن رقاب أبنائنا؟
لم أجد ما أردّ به على هجمة الطبيب.. ولكنّني خرجت وقد ثار فيّ صداعٌ أضنيت نفسي في تناسيه…
وكانت تلك هي الضربة الثانية..
الطريق طويلة..
والمعادلة مستعصية..
ولكن لن يزال الأمل معقودا..
والبرّ الذي زرعناه لا يبلى…

اترك رد

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock