تدوينات تونسية

في مديح سركونة وذكر مناقب محسن مرزوق

كمال الشارني
أنا لا أبحث عن أخبار مولانا محسن مرزوق، لكن صوره تكتسح عالمي بطريقة مستفزة، وقد ذكرتني خطاه الطاهرة في أثر خطى المنفى الفاخر للزعيم بورقيبة في قصر فارتي، بمقال كتبته عنه في سبتمبر 2015، في أثر خطاه في سركونة المجيدة، أي فرق ؟
سيدنا ومولانا طويل العمر محسن مرزوق، الأمين العام للحزب الحاكم زار مدرسة في أحد أرياف ولاية الكاف الغريبة، روى لي الحكاية واحد من أهلي وفهمت أن الشيء الوحيد الذي أزعجه هو: الكم الهائل من الغبار الذي أثارته سيارات الحرس الوطني والحرس الرئاسي رباعية الدفع وأمن آخر لا يعرفه، على طرقات ترابية لم تهيئ لمثل هذه الزيارات الجليلة، باعتبار أن ذلك أثار هيجان الكلاب الريفية بقية اليوم وجعلها تفقد صوابها، فلم تعد تميز حتى أهلها.
ما كان الخبر يهمني لولا إسم المدرسة التي زارها مولانا طويل العمر سيدنا محسن مرزوق: “سركونة 2″، والتفسير الوحيد لدي هو أن شيطانا خبيثا قد فكر في العبث بأحلامي وبالصورة الخرافية التي لا تصدق في طفولتي عن ذلك المكان النائي الذي ولدت فيه حتى أن الملائكة تتردد في الذهاب إليه: سركونة،
لقد عاشت سركونة في حالة مقاطعة تامة مع الدولة طيلة قرون، مستقلة بعزلتها التاريخية منذ فناء الرومان، ولم يعد يعرفها أو يذهب إليها إلا سكانها، اعتبر أهلي فيها أن غياب “الحاكم” نعمة، وأطلق آخر قادة العائلة من أخوال أبي “الحاج لخضر” قولته الشهيرة عن علاقتنا الغريبة بالدولة في سنوات الستين: “يخطونا نخطوهم، ما نحبوش كياص، (طريق)، الكياص يجيب الحديد، والحديد يجيب الصديد”.
هذا المكان الذي هجرته الدولة التونسية الحديثة منذ الاستقلال كانت فيه طريق معبدة في زمن الرومان، وكانت فيه قرية رومانية جميلة وبيوت أغنياء فاخرة ومقبرة، في بيت خالتي كنا نلهو حول “آفة” عملاقة، عرفت لما كبرت أنها معصرة زيتون حجرية، كانت عليها كتابات رومانية لم أفهمها إلا بمساعدة صديقي الدكتور محمد التليلي الذي أفهمني أنها تعني إسم صاحب المزرعة وإسم الإمبراطور الروماني الذي يحكم وقتها، يعتقد الدكتور التليلي أيضا أن كلمة سركونة تعني في اللغة البربرية إسم شجرة منقرضة.
وفي طفولتي كنا نعثر بين أشجار الرمان والتين على ما كنا نسميه وقتها “قبور الجهال”، أوان فخارية كنا نعبث بها، رؤوس موتى كنا نتقاذفها نهارا ونموت رعبا من خشية أن تظهر لنا أرواحها في النوم، بالإضافة إلى أشياء أخرى مسلية كثيرة يضيق المقام عن حصرها هنا.
أخيرا، بعد قرابة 18 قرنا، أي آخر زيارة الإمبراطور الروماني تراخان، جاء شيء من سلطة الدولة إلى سركونة، مرفوقا بالغبار والسيارات الفاخرة والوجوه المتجهمة إلى سركونة المعزولة، لماذا؟ لكي يلتقط المصورون الخبثاء صورا له مع أطفال سركونة، الحالمين بدورهم بالدراسة في المنازه والمنارات والبحيرة، مثلي تماما، عندما ولدت هناك في الثاني عشر من سبتمبر 1965، ولم تكن حظوظي في الدراسة تتجاوز الواحد بالمائة، إن لم يأكلني الذئب على طريق لا تقل عن 13 كم كما أكلت صديق طفولتي “جمال ولد جفال”، إن لم تجرفني سيول دير الكاف كما جرفت غيري.
لا تهتم، سيدي ومولاي محسن مرزوق، قريبا، سوف يأتيك أطفال سركونة عملة بناء في فيلاتك وفيلات أصدقائك في تونس والمناطق الشاطئية لأنهم نادرا ما يتجاوزون السادسة أساسي، أعوان حرس أو بوب في قافلتك القادمة إلى قرية أخرى، لم يدم بقاؤك بينهم سوى الوقت الضروري لأمنك لالتقاط الصور المخصصة لأغبياء الإعلام الذين لا يصورون شيئا غيرك، ثم ترحلون، تعود بعدكم سركونة إلى عزلتها التاريخية وهدوئها، وتعود لي أسطورتي الشخصية.

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock