تدوينات تونسية

خيوط الظلام

سمير ساسي
روايتي التي صدرت قبل الثورة بأشهر قليلة عن دار الحوار السورية لم تنل حظها من القراءة والدراسة وطبعا نالها ما نال اختها برج الرومي من دسائس خفية تحجبها عن الدراسة الاكاديمية والحرمان من شرف “التأسيس ” إذ سطا لصوص الثقافة في بلدي على كل ما ليس لهم و أحبوا أن يحمدوا بما يفعلوا فنظموا مهرجانات أدب السجون واستثنوني أنا مؤسس هذا الجنس الأدبي في تونس (بالنسبة للنص العربي اما باللغة الاجنبية فقد سبقني المبدع والوطني جلبار نقاش) وتحدثوا عن صراع “الاستقلال” وما صاحبه في صباط الظلام وما لحقه من طمس للحقائق وضرب للمعنى ونسوني كعادتهم وأنا أول من تناول هذا الموضوع أدبا ورواية. 
أنا لا أنتج المعنى لأحصد الجامات ولا لأحضر على موائدهم ولكني أنبه إلى عمليات السطو الرمزي الذي تقف خلفه لوبيات وزارة الثقافة في سعي فاشل لمحو من لا يروق لهم من تاريخ المنجز الأدبي.
في الرواية ما يؤلمهم كثيرا
إليكم مقتطفات من رواية خيوط الظلام
قال مسؤول آخر لم يعرف عبد الرؤوف اسمه: ذاكرتك غير مسجلة وقد اتعبها السفر والبكاء فاهترأت وذاكرة الدولة محفوظة جديدة غير تعبة ولا يواجه مهترئ تعب جديدا محفوظا…
رمق عبد الرؤوف مخاطبه من طرف خفي فرآه منتفخا كأنه لم يتنفس منذ ولادته فحدث نفسه هازئا: لا بد أن خزائن الدولة الجديدة وذاكرتها محفوظة داخله لو ثقب في الرجل مقدار إبرة كم ورقا يطير منه وذاكرة تنبجس وحرفا يتحلل من درن معدته.. ولو بقرت بطنه هل تسيل فرنكات أو دقيقا أو زيتا أو قنطرة كقنطرة بياش…
ذكر عبد الرؤوف القنطرة فغير السؤال: أتكون الدولة الجديدة خبأت القنطرة في بطن هذا الرجل الذي يحفظ ذاكرة الدولة أم سبق هو الدولة إلى القنطرة فالتهمها حتى لا تنشغل الدولة بها عن أمورها، لو لم يلتهم هذا الرجل القنطرة لأفلت الزعيم صالح من يد الدولة الجديدة..
العاشرة ليلا فات وقت القطار إلى المدينة ولا سيارات ترجع إلى هناك في مثل هذا الوقت لا مناص من المبيت الليلة هنا، ستكون ليلة طويلة يطيلها الشوق والانتظار والقلق والشوارع الخالية، شوارع ذات أسماء مختلفة ليس بينها شارع واحد باسم الزعيم كأنه لم يمر من هنا ولم يعطها من جهده ودمه.
لا ذنب لها فقد أكرهت على محو إسمه كما محت أسماء من مروا قبله وخالفوا الدولة الجديدة.
طاف عبد الرؤوف بالمدينة يفتح عينيه خطوة ويغمضها ثلاثا فالمدينة عارية بلا ثوب وبعض الزناة يقتحمون شوارعها ويمزقون ما بقي من لباسها وعبد الرؤوف يغلب عليه الحياء فيخفض رأسه ويهزه الحزن فيلعنهم جهرا ويسب الدولة الجديدة سرا.
لا أثر للزعيم أبدل إسمه بآخر من هناك كما أبدل دمع عبد الرؤوف بدمع جاف لا يرسم.
وزير الإستبدال في الدولة الجديدة نشيط وذكي يحرص أن ينجز عمله قبل النوم أبدل العرب بالغرب والجامعة بالحلف لكنه نام قبل أن يبدل المستوطنين الفرنسيس بالفلاحين التونسيين وترك الجندرمة تحفظ الأمن إذ أتعبه السهر، تركهم ولم يعطهم تصاريح السفر بالقنطرة إلى بياش الرهيب فمنعت الجندرمة حامليها من العبور حتى كانت النكبة الثالثة ولما أفاق نظر في عيني عبد الرؤوف ورأى حزنه بعد النكبة وشوقه إلى الزعيم فقرر أن يخفف عنه وأبدل إسم الزعيم باسم منداس… سار عبد الرؤوف في الشارع المسمى باسم منداس ينط من هنا وهناك يضع يديه على رأسه ويغطي وجهه حينا آخر كأنه يتقي مطرا لم ينتظره… سبح بعبد الرؤوف خياله بعيدا فظن أن منداس الآن واقف حيث كتب إسمه في أول الشارع في الزاوية العالية منه يرسل بوله على العابرين… كان عبد الرؤوف يتجنب بول منداس ولا يهتم أن يضاف إسمه إلى قائمة المنسيين الذين لم يذكر المذياع أسماءهم في قائمة نهاية السنة الدراسية، المهم عنده أن يخرج من الشارع دون أن تمسسه قطرة من بول منداس العفن حتى يدرك وقت الصلاة وقد قرب طاهرا غير نجس خلف الزعيم الذي يقف الآن فوق منبر الجامع الأعظم واستعد لخطبة القطيعة…
لا يدري عبد الرؤوف متى ستفرغ الدولة من مشاغلها لكنه يعلم أنه الآن في العاصمة وقد نجا من رذاذ بول منداس وسار في شوارع أخرى لم ينتبه إلى أسمائها فأوقف سيره.
كان يحدث الأستاذ حينا ونفسه أحيانا أخرى ويرحل في كثير من الأحيان إلى بياش الرهيب وتحضر أمامه صور التلاميذ يتصايحون ويتسابقون إلى الموت، يقفزون من كميون الجيش الهرم الذي أوقف سيره بياش الرهيب وحمل معه التلاميذ غضبا على الدولة الجديدة التي لم تبعث إليه بقنطرة جديدة… تحضر صور التلاميذ عبد الرؤوف فينفصل رأسه عن جسده ويوغل في حزنه ويمشي لا يعلم أين تأخذه قدماه.
قدماه تسيران به الآن بعيدا عن رأسه الحزين، تخرج من شارع إلى شارع تسير ولا تأبه… حين بلغت شارع الحرية عادت الرأس إلى مكانها…
شارع الحرية طويل كطول بياش، منطلق مثله منفتح من جهتين كأنه يريد أن يعبر عن إسمه لكنه ليس رهيبا كرهبة بياش الذي لم تصله القنطرة لانشغال الدولة بأمورها حتى غضب وفعل فعلته بعبد الرؤوف وبالتلاميذ وبكميون الجيش الهرم…
لم تأت القنطرة إلى بياش الرهيب فبقي حرا منطلقا لا يحده شيئا ولا تقيده القنطرة وشارع الحرية أحاطت به شوارع من جانبيه فبقي فاغرا فاه ينبعث منه بعض نسيم من إسمه يضيع في الزحام. وقف عبد الرؤوف في آخر الشارع، طاف أوله وآخره ولم يشعر أن الشارع يلقي عليه شيئا من إسمه، اشتد ضيقه وبرم بمكانه فاتخذه ظهريا.. كان الشارع محاصرا على يمين عبد الرؤوف بشارع مدريد يليه شارع لندن وأمام عينيه يقف ثامر تسنده من خلفه عن شمال عبد الرؤوف باريس وعن يمين ثامر روما…
ارتمى ثامر في أحضانهم جميعا حتى يشم نسائم الحرية التي يبعث بها الشارع المقابل له حيث يقف عبد الرؤوف الآن ظهريا ينظر إلى ثامر.
لا حرية إلا من هناك من مدريد ولندن وباريس وروما… قال الحبيب للحبيب ورماه بينهم واقفا ينتظر، تحول بينه وبين عبد الناصر سفارة الفرنسيس الذين جاؤوا من قبل إلى هنا وحاول ثامر ومن معه إخراجهم، كان صالح معهم لكنهم طردوه وأجبروه على الخروج ليبقى ثامر وحده وسط تلك المدن التي تبعث بالحرية في صناديق كميون جيشها الجديد يعبر الأرض لا يحبسه غير الجبل، هناك يرمي حمولته كلها جيشا وعتادا وصناديق محشوة بالحرية تختلط وتذهب مع صدى الريح في الجبل.
لكن الجبل الآن فارغ لم يعد فيه من الرجال إلا القليل، دعاهم بورقيبة جميعا للنزول فنزل منهم أكثر من ألفي رجل لم يسمعوا كلام صالح الذي دعاهم للبقاء في الجبل حيث الشيح والعرعار والحرية لكن المأدبة التي دعاهم إليها بورقيبة كانت أدسم وصناديق الحرية جاءت مع كميون الجيش الجديد فنزلوا… لم يبق في الجبل من الرجال إلا القليل ومن بقي لن يهتم لصناديق الحرية التي نزلت مع حمولة كميون الجيش الجديد…
مدن الغرب تحاصر ثامر من كل الجهات وعبد الرؤوف ينظر إليه خلسة كأنه يعجب أن يضن شارع الحرية ببعض نسائمه على ثامر وقد ضحى كثيرا لأجلها، باريس وراء ظهره بعدما كانت تقف على أرضه وتكتم أنفاسه وأنفاس الزعيم وأنفاس عبد الرؤوف أو تحاول وكان ثامر يصارع من أجل أن يشم بعض نسيم الحرية وتجهد باريس أن تسد منافذها جميعا. والآن بعد أن جاء منداس ورحل ثامر واتفق الحبيب مع الفرنسيس وبعد أن فر الزعيم صالح خارج البلاد وقفت باريس خلف الدكتور ثامر يطل منها مسيو كمبون، يحمل معه كتب كثيرة… كتب في الجغرافيا وفي الحساب والهندسة كلها بالفرنسية، جاء يستعيض بها عن عربية خير الدين في “الصادقية”.

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock