تدوينات تونسية

غياب الشارع

زهير إسماعيل
ببساطة، الشارع جزء من الديمقراطيّة، وهو مؤسسة مثل غيره من مؤسسات المنظومة الديمقراطيّة يستظلّ مثلها بالدستور ويضبط القانون حركته.
ويكون حضور الشارع في القضايا الكبرى التي تهمّ وجود البلاد أو أسس العمليّة الديمقراطيّة، أو قيمة جامعة مهدّدة.
مسار العدالة الانتقاليّة اليوم مهدّد، ويتمثّل التهديد المباشر في “التصويت الفضيحة” برفض التمديد للهيئة وهو ما يسمح به قانونها الداخلي في فصله 18.
وفي مجلس نواب الشعب حدث تعدّي على القانون سواء في مستوى مكتب البرلمان أو في عملية التصويت المهزلة. وهذا يستدعي حضور مؤسسة الشارع لإيقاف العبث بمسار العدالة الانتقاليّة. وهي مسؤولية الأحزاب بدرجة أولى وخاصة الممثلة منها في البرلمان، وكذلك مسؤولية الشخصيات الوطنيّة، والكفاءات العلمية والأكاديمية (بقي بيان الستين دون ردّ من نظرائهم)، والمثقفين وسائر نشطاء المجتمع المدني.
الشارع بهذا المعنى الواسع شبه غائب، حتّى الوقفة والمسامرة أمام هيئة الحقيقة والكرامة بمبادرة من بعض النشطاء مشكورين كان الحضور (حضور الأحزاب والأفراد) فيها ضعيف جدّا، مقارنة بحجم التحدّي، ورغم الإجماع على أنّٰ استهداف مسار العدالة الانتقاليّة استهداف مباشر لمسار الانتقال الديمقراطي.
وأضيف: إنّ استهداف رئيسة الهيئة استهداف للعدالة الانتقاليّة.
والسيمنار الذي نظمته مؤسسة التميمي مشكورة لم يكن في مستوى الانتصارات، فجلّ المداخلات، إلى جانب الارتجال الذي طبعها، لم تكن تدرك بدقة المطلوب منها، فلم تنج من “نكهة الشعبوية”، ومالت إلى “درجة من الشيطنة” في علاقة بمسألة الوثائق والثروات الوطنية، في حين كان المطلوب هو تحرير بورقيبة من “المستثمرين الجدد” فيه من شراذم القديم ومن “هالة القداسة” التي أحاطوه بها، وردّه إلى “بورقيبة التاريخي” بما له وما عليه، بالتركيز على أنّٰه كان يمثّل لحظة إبرام وثيقة الاستقلال وما رافقها الدولة التونسيّة دون نفي دوره ومسؤوليته، وربط الموضوع بملابساته التاريخيّة وزحزحة الصورة لتقترب من أن تمثّٰل مشتركا، في سياق لا شيء فيه يجمع فرقاءه.
وهذا ما تفطّنت إليه رئيسة الهيئة فكانت مداخلتها موفقة وتعديلا ضروريا ردّ موضوع الوثائق إلى علاقته بمسار العدالة الانتقاليّة.
ويبقى للتحرك فضله، في أنّٰه تعبير من مؤسسات المجتمع المدني والدور المطلوب أن ّتلعبه في مثل هذه المراحل ومثل هذه الرهانات.
دور الشارع تفرضه عودة القديم مع انتخابات 2014. ومثلما أن ثقافة القديم الاستبداديّة ومصالحه القديمة تمنعنه من أن يستكمل عملية البناء الديمقراطي، وتحُضّنه على تجويف ما بني من مؤسسات (الهايكا نموذجا)، فإنّه لا ينتظر أن يثابر في إنهاء مسار العدالة هو فيه الجلاد وموضوع المساءلة والمحاسبة.
غياب الشارع سيجعل من “التوافق” في موضوع العدالة الانتقاليّة “قتلا رحيما” للمسار. و10 آلاف أمام مقرّ الهيئة رسالة قويّة كفيلة بتعديل المشهد.
في زمن الاستبداد، لم تنقطع العرائض وأشكال الاحتجاج المتاحة، رغم صعوبات التحرك وضريبته.
وفي سياقنا الحالي “كأننا في الدرجة الصفر للفعل”، ويبدو أنّٰ للسنوات السبع تأثير على الأحزاب وعلى مستوى الفعل السياسي وعلى علاقة الناس بالسياسة وعلى انتظاراتهم منها.
يهرب البعض إلى عمق الأزمة الماليّة الاقتصاديّة وتداعياتها، وفشل منظومة الحكم في مواجهتها، غير أنّٰ تفاعلات هذه الأزمة إذا تواصلت ستأتي على البناء كلّه. أو تُتيح للمغامرين ممن كان مرباهم العسف والاستبداد من القديم “لعبة الإنقاذ”، “إنقاذنا” من الديمقراطيّة.
غياب الشارع، في ظلّ أزمة مركبة: أزمة مالية اقتصادية، وأزمة حكم، وتوجه نحو تقويض القليل الذي أُسّس، دليل قوي على غياب البديل.

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock