تدوينات تونسية

بين العمدوني وزيتون

نور الدين الختروشي
في مطلق التقابل بين جبة الداعية ومعطف السياسي الأنيق
في النهضة يوجد قيادي فوق القيادة إسمه لطفي زيتون… قيادي يخالف المؤسسات وليس منها في شيء… فشل مرارا في الفوز بتزكية إخوانه يسارع في هوى النظام القديم… سماع لهم ناطق باسمهم سباق لهدم ما يبنيه غيره… يغرد خارج السرب دائما يستمد جرأته المزيفة من سلطة وسطوة الشيخ الرئيس… نرجسي تعظم أناه فيه حتى لا يكون إلا ما يرى صحيحا… مهما نطق انتبهوا لكلامه لأنه كرس نفسه لقول ما لا يجدر قوله وما لا يتوقع قوله وما يمنع قوله على غيره… هو خطر على مشروع الحركة الإسلامية ومن العجائب أننا بصدد شذوذه الفكري وسياسي لا يخالف الثوابت والمؤسسات فقط بل له سدنة من بطانة الخير تهاجم كل من ينتقد شذوذه وسخفه… ماهر في اقتطاع تدوينات الآخرين وتدليسها من أجل استعمالها في الإسترزاق بالمظلومية… والايهام بأن كل نقد له تحريض عليه بالقتل أو العنف أو التكفير… وتحميل كلام إخوانه ما لم يقصدوا… يعطي من لا يستحق من مجرمي الإستبداد ما لا يملك… يعفو عن القتلة ويريد طي صفحة المظالم نيابة عن الجوهري وزروق وعثمان… هذا الرجل مصيبة على الحركة… ابتلاء ابتلانا الله به ونسأل منه جل وعلا التخفيف واللطف“.
المكتوب أعلاه تدوينة فايسبوكية لم يكتبها شابا نهضاويا في حالة تشنج وغضب وطيش شبابي يرى في خطاب القيادي لطفي زيتون إنتهازية سياسية مخاتلة وخائنة للتاريخ والذاكرة وللقيم والمبادئ وللثورة وشهدائها.
النيران الصديقة صادرة هذه المرة عن رمز من رموز حركة النهضة.
لا يهمني كثيرا الوقوف عند ردود الأفعال على هذه التدوينة/الحدث بقدر ما يستفزني سؤال لماذا وكيف ؟؟؟
هذا الكلام استغرب له المتابعون للشأن العام وصدم له جزء كبير من أبناء حزب النهضة لأنه صادر عن قيادي وازن في حركة النهضة وهو الشيخ لطفي العمدوني الذي يعتبر من الرموز الدعوية الوازنة لحركة النهضة.
فما الذي جعل “الإمام” يغلظ قوله “في أخيه وزميله في قيادة الحركة ؟؟
مواقف زيتون معروفة من اليوميات وموقفه الأخير من العدالة الإنتقالية يشاركه فيه جزء من قيادات الحركة ومن العديد من الفاعليات خارجها وهو موقف تقديري مفتوح بطبيعته على الإختلاف والتنوع ؟؟
فما الذي دفع “الشيخ” لطفي إلى هذا الموقف الحدي من “السيد” زيتون ووصفه بالمباح وغير المباح في تدوينته ؟؟ الأكيد أن موقف العمدوني من زيتون يتجاوز الحدثي والاَني واليومي، ليتصل بالاستراتيجي وبصداع بدعة الفصل بين السياسي والدعوي الذي أجازه المؤتمر العاشر لحركة النهضة.
تدوينة العمدوني محاكمة علنية ومكشوفه وعلى الملأ يقيمها الداعية للسياسي بعد سنتين من إقرار الفصل.
وفي هذا السياق تبدو التدوينة وكأنها تعبر عن حكم بات صادر عن النهضة العميقة في حق النهضة الجديدة.
فليس غريبا في سياق عمق التحول التاريخي الذي دشنه المؤتمر العاشر لحركة النهضة أن يصدر هكذا موقف بكل هذا العنف اللفظي والأخلاقي عن الداعية الذي فهم من مقولة الفصل إعلان مطاردة شقية له، لوجوده، وموجوده داخل الحركة، التي شارك في بنائها حجرة حجرة، بل ووضع لها أسس ومقومات وجودها العقائدي والحركي، ودفع من أجل ذلك نفسه ونفيسه.
كل المعنى في تدوينة العمدوني تقرأ في هذا الأفق، ويخطئ في تقديري من يحشر حدودها وحدها في الموقف من العدالة الإنتقالية.
فإذا سلمنا بعمق وجذرية التحول الذي شهدته النهضة من الحركة الشاملة الطامحة لإعادة صياغة الموجود الوطني، إلى الحزب المتخصص الهادف إلى تحسين شروط الوجود السياسي والإجتماعي، فإنه من الطبيعي أن تحدث ردود أفعال من داخل جسم النهضة بهذا الحسم وتلك الحدة، وما هو إستثنائي بل وشاذ أن لا تصدر من النهضة هكذا مواقف.
العمدوني ودون أن يقصد أعلن بوضوح وصدق عن صدقية اختيار النهضة وتوجهها الجديد ورد في تدوينته بوضوح وحسم أيضا عن المشككين من الرأي العام في مصداقية النهضة وجديتها في توجهها الجديد.
كان من الطبيعي بل من المطلوب أن يشهد الرأي العام عن التداعيات الأليمة لخيار الفصل بين السياسي والدعوي، وأن يتابع تحت الشمس مفاعيل الضغط العالي على جسم النهضة الذي تعايش فيه الداعية والسياسي في انسجام وسلم وأمن وأمان طيلة العقود الأربعة من عمر الحركة. فالداعية والإمام داخل النهضة الجديدة يبدو أنه منزعج حد الضجر من تحول الحركة من ضفة القيمة إلى ضفة المصلحة. ويصعب على من تعود على إدارة الصراع مع الخصوم بداعية الوضوح المبدئي استيعاب قواعد وفنون المباراة السياسية، التي لا تستدعي الشجاعة في الشهادة على الواقع، بقدر ما تطمئنّ للحيلة والمكر النبيل لتغييره، فالداعية والإسلامي عموما ليست له دربة كبيرة عل فنون المناورة، فقد تعود على طهورية الموقف السياسي المبدئي طيلة عقود النضال ضد الإسنبداد.
الواضح الآن وهنا أن الشيخ لطفي العمدوني يعلن من خلال تدوينته على خط التمايز بين قديم النهضة وجديدها، وستكون حركة النهضة في المستقبل القريب أمام إمتحان عصيب لوحدتها، حيث لن يتحمل ولن يتفهّم جزء كبير من أبنائها إدارة المناورة ورشاقة القفز على الألغام وسيحاكمها بمنطق القيمة وألق المبدأ وميزان الحق والباطل. تماما كما سيحاكم ناخبها أداءها من الخارج بميزان أخلاقي على اعتبار قيمتها الرمزية والإعتبارية وبالنظر لهويتها الدينية. ولن يرحمها خصومها في الداخل والخارج إذا لم تحسن الإدارة برافعة الممكن، وما تستوجبه من تقدير دقيق لتشابك المصالح وتناقضها، وحركية ميزان القوى في الداخل والخارج. فحركة النهضة اليوم أمام ثلاثة خطوط ضغط فيها الداخلي ومنها الخارجي تتصل جميعها بتحدي مركب يحيل على ضرورة البقاء على أرضية القيمة والتحرك برافعة الحيلة. وهذا التحول المركب هو نفسه التعبير السياسي والتاريخي لجدل الثقافي والسياسي في هوية حركة النهضة.
صداع المسك بخيط الوصل بين هوية الحركة الرسالية أو الدعوية أو الدينية بالمعنى العام، وبين تسطير خط الفصل مع الكيانية السياسية أو الوعاء الحزبي للهوية، إمتحان لن تتجاوزه النهضة والإسلاميون عموما إلا من خلال جدل مسترسل ومتدفق بين الجهد التنظيري الفكري والبراكسبس أو التجربة الميدانية. ويخطئ منهجيا من يتصور أن المسألة ستحسم في ورقة نظرية أو بآليّة الحسم الإجرائي، داخل المؤسسات أو في مؤتمر. الإشكالية ستبقى خالدة وتنتج مفاعيل استمرارها ما دامت السياسة مراوحة شقية وساخرة وقاسية بين الواجب والممكن. لو يفهم وستوعب ويستسيغ الداعية النهضوي أن السياسة تتوظأ ولا تنطهر، ربما ينجح في الإمتحان الذي سقط فيه الصحابة رضوان الله عليهم ذات يوم في تللك السقيفة.
الشيخ لطفي بما قاله إعلاه في السيد لطفي ربما يدشن لحظة فرز مفصلية وتاريخية داخل الجسم النهضوي قد تعلن عن خطوط التمايز الطبيعي بين نهضة الأمس ونهضة الغد فنهضة اليوم تبدو في مكان رمادي قد يسكّن الخشية من الحسم وقد يؤجل يوم الزينة، ولكن لا يعالج تقابلا مزعجا بين من يمثل منطق الشهادة على التاريخ والوجود، وبين منطق توظيف التاريخ لتغيير الموجود.
جريدة الرأي العام

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock