تدوينات تونسية

العدالة الإنتقالية بين إلتزام الدولة ونكران السياسيين

أحمد الرحموني
رئيس المرصد التونسي لاستقلال القضاء
تعتبر الإرادة السياسية ممثلة في السلطتين التنفيذية والتشريعية من الشروط الجوهرية لتحقيق العدالة الانتقالية وذلك بالنظر الى أنّ القوانين والتدابير والإجراءات لا يمكن تفعيلها وضمان تنفيذها خارج الإرادة السياسية التي تبقى المحرك الرئيسي لمسار العدالة الانتقالية.
وفضلا عن ذلك فإن علوية القانون -بمعنى الخضوع لأحكامه سواء من قبل الحكومة أو موظفيها- وكذلك استقلال القضاء -لدوره في ضمان معايير المحاكمة العادلة- يعتبران من الشروط المطلوبة في هذا السياق لتطبيق منظومة العدالة الانتقالية.
وقد ظهر في الأزمة الأخيرة -التي لازالت تطوق هيئة الحقيقة والكرامة- أن من أهم المعوقات التي تحد من فاعلية العدالة الانتقالية هو غياب الإرادة السياسية -في هذا المجال- لدى عدد من ممثلي السلطة التشريعية (إن لم يكن الأمر متعلقا بعداوة راسخة لدى بعض النواب!).
ولايخفى أن أزمة التمديد في أعمال الهيئة -التي افتعلها تحالف الأحزاب التي لا تنكر ارتباطها بالتجمع المنحل!- لم تكن إلا ذريعة “للإنقلاب” على المسار بأكمله والحيلولة دون إستكمال أعمال الهيئة وصياغة توصياتها.
ويمكن أن نتبين أن غالبية الفاعلين في تلك الأزمة البرلمانية قد ارتبطوا -إما فكرا وإما ممارسة- بالنظام القديم (هذا إن لم يكن بعضهم من المنتمين سابقا للتجمع والداعمين له).
ولعل الدور الذي لعبه السيد محمد الناصر رئيس مجلس نواب الشعب في هذه الأزمة يبرز -لا فقط غياب الإرادة في دفع مسار العدالة الإنتقالية- بل يكشف تحاملا غير مبرر وتجردا عن الحياد والموضوعية في شأن مصيري وخطير.
ويجب التأكيد في هذا الخصوص على الحماية الضرورية لمسار العدالة الإنتقالية التي أقرها الدستور وما يقتضيه من أن الدولة تلتزم بتطبيق منظومة العدالة الانتقالية (الفصل 148).
وفي ضوء ما قدمناه يرد التساؤل الأساسي هل أوفت الدولة بما التزمت به أم “أخلف” ممثلوها عهدا قطعه الدستور على نفسه !؟
لاشك أن ممثلي الدولة قد أظهروا -مع البداية الفعلية لمسار العدالة الإنتقالية سنة 2014- “اهتماما” يتراوح بين التخلي والعدائية والتجاهل! فضلا عن تأجيج الصراعات الداخلية لهيئة الحقيقة والكرامة التي ساهمت في إضعافها، من ذلك:
أن رئيس الدولة (السيد الباجي قائد السبسي) قد أطلق -حتى قبل انتخابه- تصريحات حادة ضد مسار العدالة الإنتقالية وتعهد بحل هيئة الحقيقة والكرامة بدعوى أنها تؤسس لمنطق الإنتقام والتشفي.
وبعد توليه تم منع الهيئة من قبل نقابة الأمن الرئاسي من دخول قصر قرطاج ونقل الأرشيف الخاص بالرئاسة.
كما قاطع الرئيس الحالي جميع الجلسات العلنية التي نظمتها تلك الهيئة ولم يسبق له أن كلف من ينوبه لحضور تظاهراتها.
كما لم يشرف على أي نشاط يرتبط بذلك، وهو يعتبر مسار العدالة الانتقالية مسيسا ومناقضا لتوجهاته ويساهم في تقسيم التونسيين.
وقد سعى إلى إقرار آليات موازية للمسار الذي تبناه القانون الأساسي المتعلق بإرساء العدالة وتنظيمها. وقد اقترح لهذا الغرض مشروعا للمصالحة الإقتصادية إعتبره قطاع كبير مدخلا لتبييض الفساد وضرب العدالة الانتقالية. وقد كان إصرار رئيس الجمهورية على مشروع المصالحة -رغم المعارضة الواسعة- وراء المصادقة على قانون المصالحة في المجال الإداري.
أن رئيسي الحكومتين المتعاقبتين -السيدان الحبيب الصيد ويوسف الشاهد- قد إمتنعا من جهتهما عن حضور الجلسات العلنية لهيئة الحقيقة والكرامة وتظاهراتها.
كما اصطدمت الهيئة بصعوبات كبيرة عند طلبها النفاذ إلى الأرشيف المحفوظ ببعض الوزارات (كوزارة الداخلية) أو بعدد من المؤسسات العمومية الراجعة بالنظر إلى المصالح الحكومية فضلا عن العراقيل وعدم التعاون من قبل بعض مصالح الدولة والهيئات العمومية (كالمكلف العام بنزاعات الدولة والأرشيف الوطني).
كما أن وزراء العدل في حكومات النداء لم يتحمسوا لإرساء الدوائر المتخصصة للعدالة الإنتقالية (بالمحكمة الإبتدائية المنتصبة بمقار محاكم الإستئناف) التي بقيت إلى الآن حبرا على ورق بل لم يساهموا بأي وجه في تكوين القضاة الملحقين بتلك الدوائر. وإضافة لذلك فإن بعض الهيئات القضائية (كالقطب القضائي المالي والمحكمة العسكرية) لم تظهر إستعدادها للتعاون مع هيئة الحقيقة والكرامة بشأن بعض الملفات المنظورة لديها.
فهل كان على الهيئة أن تشكو تقصير الدولة ونكران ممثليها وأن تتحمل فوق ذلك ضغوط الضحايا ووقاحة الجلادين؟!

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock