تدوينات تونسية

ماذا تظنون هل تعتقدون أن تعذيبكم سهل ؟

كمال الشارني
بدأت برؤية ضابط الشرطة سي الحمدي في أحلامي منذ أشهر عديدة لم أعد أذكرها إنما كان ذلك بعد الثورة، وإلا لكنت قتلت نفسي من فرط التعذيب الذي أتعرض له في الحلم. كنت أحلم به في أوقات متفرقة، ليس لها أي ترتيب أو منطق، يحدث لي أن أقضي أسابيع لا أراه في أي حلم ثم أنساه حتى في اليقظة، وأحيانا أراه كل ما أغمضت عيني،
وفي أوقات نادرة جدا في نومة القيلولة، حيث قالت أمي إنها اضطرت مرة لمسح العرق المتفصد حول عيني حتى لا أصاب بالتهاب فيهما لأني كنت أحلم مفتوح العينين وكنت أصرخ وأبكي متوسلا لإيقاف العذاب، لكني لم أنفصل بعد عن الحلم رغم أني وقفت تماما، وأنا لا أذكر كيف قادتني أمي إلى بيت الحمام لأغسل وجهي ورأسي الغارق تماما في العرق، حتى أنها قالت لأختي الكبرى عائشة وهي تغصّ بدموعها:
لم يقتلوه تحت التعذيب حقا فهل يقتلونه في أحلامه ؟ أصبحت أخشى أن يموت بجفاف الجسد بسبب كثرة العرق المتفصد من رأسه ورقبته، أصبحت أخشى أن يموت رعبا في أحلامه المزعجة،
قالت لها أختي:
أمي، يملك الإنسان وعيه، لكنه لا يملك حلمه، لقد تخلصنا من النظام وأعوانه، إنما لم نتخلص من الذاكرة،
لماذا لا تقنعيه بالعلاج عند طبيب نفساني من أصدقائكم ؟
البلاد كلها بحاجة إلى العلاج أمي، لا تهتمي، سوف يقاتل ببسالة حتى في أحلامه،
أنا أفيق على حالة الإرهاق الجسدي المفرط والآلام الغامضة في الساقين ومعصمي يدي، وأحيانا على آلام بلا مبرر في فمي حيث يبدو لي أن أسناني لم تعد ثابتة في مكانها. وبعد أن أجبرتني أمي على الاغتسال بعد حلم القيلولة ذاك، عدت للتمدد فاتحا عيني، كان يبدو لي أني لم أخرج بعد تماما من الحلم، إنما الحقيقة أني عدت إلى النوم مفتوح العينين، وتقول أختي الصغرى زينت وهي شابة في السادسة عشر من العمر، ما تزال تعاني من صدمات إيقافي وتعرضي للتعذيب، إني سريعا ما عدت إلى الصراخ ألما، تذكر أن المشهد كان مريعا، وكانت تظن أني سأكون قد فقدت عقلي حين استيقظ، أما أمي فتقول إنها اضطرت لإيقاظي حتى وإن كان ذلك سيؤدي إلى إصابتي بالخبل، كما تقول الأسطورة عن الإيقاظ العنيف لأحلام القيلولة والنهار، فقدت أمي ثباتها التاريخي هي تقرأ عليّ المعوذتين وسورة الإخلاص بصوت عال مخلوط بالبكاء ثم سكبت عليّ سطل ماء بارد، وقتها استيقظت حقا وكان يبدو لي أني أتنفس لأول مرة بعد ربع ساعة من حبس الأنفاس.
حدث لي مرة أيضا، أن رأيت سي الحمدي في منامي وأنا أستسلم لنوم الموت إرهاقا وتعبا على أول شيء اعترضني في البيت عائدا من حفل زواج أخي في أهلنا في الجنوب بعد أربعة أيام من السهر. وقتها، قلت له في المنام بتوسل صادق إني على حافة الهلاك تعبا بسبب السهر والسفر ولم تعد لي القدرة على الجواب على أي سؤال، قال بغضب:
أنا أيضا مرهق، ماذا تظنونا أنتم الطلبة ؟ هل تعتقدون أن تعذيبكم سهل ؟ أنا أصلا لم أعد أحب هذا العمل، ثم إني كما قلت لك تقاعدت واسترحت منكم بعد ثورتكم، أنا أيضا أصبحت في المعارضة، لذلك علينا، أنا وأنت، أن نخرج من هذه المتاهة بالطرق التقليدية: أعذبك، فتعترف وتمضي على المحاضر، وننتهي، وبعدها لن نجد مبررا لكي نحلم ببعضنا في هذا المكان القذر،
لكن، أعترف لك بماذا ؟ أنا لم أفعل شيئا،
هذه أكثر عبارة أكرهها لديكم، لا يوجد شخص لم يفعل شيئا، وإلا لماذا أنت هنا ؟
لماذا لا تفترض لحظة أني بريء حقا ؟ دعني أنام،
هذا ممكن، إنما سيكون محرجا لي إزاء إدارتي أن تكون بريئا بعد أن عرضناك للتعذيب، لو كنت بريئا فلماذا أتينا بك هنا ؟ لا يمكن أن يكون ذلك عبثا، نحن لا يمكن أن نعبث هنا.
أنت تعرف الآن أنكم جئتم بي هنا خطأ، سأنام، بإمكانك أن تطلق عليّ رصاصة الآن، فقط صوب إلى الرأس، ليس لدي رغبة في الانتظار، قلت لك دعني أنام،
يقوم من مكانه، يضع يده عند صدغه الأيمن علامة التفكير العميق ثم يشير لي بإصبع الشهادة دون أن ينظر إلي:
نعم لقد جاؤوا بك خطأ، هذا يبدو صحيحا لكنه غير واقعي ومعقد في وضعنا الآن، حين تعترف بشيء ما، سيكون من السهل إطلاق سراحك تحت أي مبرر، نستطيع أن ندعي مثلا أنه تبين لنا أنك واحد من عناصرنا المندسين بين الطلبة،
لكني حقا لم أفعل شيئا، ولم أكن من عناصركم،
يشير برأسه يمينا ويسارا بقوة يرافقها صفير استنكار من فمه الرقيق الطويل الذي يختزل قسوته تجاهي حتى حين يبتسم، يرى أني أُثني رأسي على كتفي في ما أمكن من الوضع لكي أستسلم للنوم، يقترب مني، يدير وجهه بحثا عن بصري، أراه وهو يبتسم بفمه الذي لا يمكن أي يوحي لي أبدا بالطيبة أو حسن النوايا:
إلاّ هذا، أنت تعرف كم نكره حكاية لم أفعل شيئا، من حيث المبدأ، ليس هناك من لم يفعل شيئا، ومن الواقع، سيكون علينا ملء وثائق كثيرة حول براءتك، ثم سيبدو ذلك غريبا وغير مقبول هنا للإدارة وهم لا يصدقون هذه الخرافات، أنت لا تعرفهم. في المقابل، (يطرشق اصبعي السبابة والإبهام في الهواء علامة التفوق): إعترافك، سيمكنني من اتخاذ قرار بإطلاق سراحك تحت أي مبرر، وفورا، وهكذا تنتهي هذه الأحلام المزعجة.
محاولة روائية موازية لتعطل العدالة الانتقالية: (من رواية غير منشورة).

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock