تدوينات تونسية

من الأوهام المريحة

محمد بن نصر
التاريخ يكتبه المنتصرون، هكذا قيل… إلا أن الأمر أصبح صناعة على غاية من الدهاء والإدعاء العلمي خاصة مع ضعف الرواية الشفوية. بمجرد أن تنتهي “المعركة” يتجند سماسرة الأقلام ليكتبوا وقائعها وفق ما يروق للمنتصر. ثم ابتدعوا فكرة عدم إمكان الإطلاع على الوثائق المتعلقة بها إلا بعد مدة مُعينة. مدّة تكون كافية لترسيخ الرواية التاريخية المعلّبة علميا في أذهان الجميع بما في ذلك المهتمّين بالشأن التاريخي.
لم نعرف بعد الكثير عن حقيقة حرب التحرير لأنها تُعمّق روح المقاومة وقرأنا كثيرا عن مفاوضات “الاستقلال”. لم نقرأ، على سبيل المثال، شيئا عن مقاومة بغداد للمحتل الأمريكي ولكن قرأنا وسنقرأ الكثير عن سقوطها لأن السقوط يعمّق الشعور بالهزيمة المستدامة.
الغريب أن البعض ممن يستهويهم الاطمئنان للأوهام يعيشون في وهم الاستقلال ويزعجهم معرفة الحقيقة بل يتعامون عنها قصدا حتى لا تنهار قصورهم الرملية.
في كتابه «الضحكة والنسيان» ذكر ميلان كندورة حادثة معبرة عن نوع من أنواع التزوير التاريخي اللافت للنظر، لأنه كان من النوع الذي يهدف إلى نفي ما وقع بالفعل، وليس فقط تأويله تأويلا غريبا، مفادها أنه في شهر فبراير من عام 1948، كان الزعيم الشيوعي كلمنت قوتوالد يخطب في الجماهير التي احتشدت أمام قصر الباروك في مدينة براغ التشيكية، وقد أخذه الحماس ولم يكترث بنزول المطر ولا بتساقط الثلوج، كان مكشوف الرأس، نسي أن يأخذ معه قبعته، وبنباهة المستحمر سارع عضده الأيمن كلمنتيس وكان يقف إلى جانبه في شرفة القصر المطلة على الساحة العامة، سارع إلى نزع قبعته ووضعها على رأس الزعيم، وتعالت أصوات الجماهير إعجابا وتقديرا وضجت الساحة بالتصفيق لهذا المشهد المثير، والتقطت الصحافة تلك الصورة التاريخية لتثبت بعد ذلك على جدران المدينة وقاعات الدرس، وكل المؤسسات العامة، فضلا عن تضمين المقررات الدراسية لها. فعلمها الشاهد والغائب، المتعلم والجاهل، الصغير والكبير.
بعد أربع سنوات اتهم كلمنتيس بالخيانة العظمى وأعدم شنقا، وكان على مهندسي إعادة كتابة التاريخ وفق الراوية الرسمية، أن يعيدوا ترتيب الأوضاع كما تقتضيها الظروف الطارئة، وكما تقتضيها «مصلحة الحزب والوطن» فعمدوا إلى محو صورة كلمنتيس، ولكنهم وقفوا عاجزين أمام قبعته التي استعصمت بمكان آمن واستعصت عن التزوير. ظلت هذه القبعة شاهدة على التلاعب بالأحداث والاستخفاف بعقول الناس، فالجميع يعرف أن تلك القبعة القابعة فوق رأس قوتوالد هي قبعة كلمنتيس.

اترك رد

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock