مقالات

استقلال تونس: حصيلة نضالات وتضحيات متراكمة للشعب والنخب

عبد اللطيف الحناشي

كان استقلال تونس نتيجة تضحيات ونضالات متراكمة ومرتبطة ببعضها البعض على مدى نحو 75 سنة شاركت فيها كل الجهات والفئات والشرائح الاجتماعية وشخصيات من مستويات ثقافية واجتماعية وتعليمية متباينة.

ففي الوقت الذي تصدت فيه قبائل الشمال الغربي والوسط والجنوب للغزو الفرنسي للبلاد (1881) لم تقاوم أغلب مدن البلاد قوات الاحتلال الغازية في حين صمدت وقاومت مدينتي صفاقس وقابس لفترة طويلة نسبيا بقيادة عليّ بن خليفة النفاتي (1807-1885) هذا القائد العصامي الذي لا يُذكر برغم دوره النضالي المتميز كما لا يذكر لا اسم ولا دور منصور الهوش ومحمد كمون (1826-1901) ولا علي بن عمارة الجلاصي وعلي بن عمار العياري هؤلاء الذين قاموا بدور متميز في التصدي لقوات الاحتلال كما لا يذكر التاريخ شهداء قبائل الجنوب والوسط والشمال وما عانوه من قمع وتسلط من ذلك دور قبيلة خمير وقبيلة وشتاتة التي عاقبها الجيش الفرنسي بأن قام بنفي نحو 400 عنصر منها خارج تونس..
كما يتم تغييب أو نسيان أبطال انتفاضة الجلاز العفوية التي اندلعت يوم 7 نوفمبر 1911 وهي أول فعل نضالي مديني قامت به الشرائح الدنيا من سكان العاصمة ما أدى إلى سقوط عشرات الضحايا بين قتلى (10) وجرحى (17) يومي السابع والثامن من نوفمبر ثم إحالة 73 تونسيا أمام محكمة الجنايات الفرنسية (دون الحديث عن إحالة نحو 421 تونسيا على محكمة الدريبة) حكم على 7 منهم بالإعدام (منهم المنوبي الجرجار) وعلى 18 من المحتجين بالأشغال الشاقة. ومن الأحداث الهامة والفارقة ببعدها الوطني والمغاربي التي لفها النسيان ثورة الجنوب أو ثورة الودارنة (1915-1916) وما تلاها من مقاومة عنيفة في المنطقة… ورغم أهمية الحزب الحر الدستوري التونسي فقد حاول البعض غمط دوره الوطني الرائد في نحت الشخصية الوطنية واتهام قيادته “بالرجعية”… والأمر ينسحب حتى بالنسبة إلى الحركة النقابية إذ يتم التركيز على دور الزعيم محمد علي الحامي دون غيره من رفاقه مثل المختار العياري ومحمد الغنوشي ومحمد قبادو وعلي القروي… الذين ساهموا مساهمة فعالة في بروز جامعة عموم العملة التونسية والحركة النقابية الوطنية الأولى ونال البعض منهم من العقاب ما ناله محمد علي (النفي) وهو نفس الأمر بالنسبة إلى القيادات المؤسسة للحزب الحر الدستوري التونسي، الديوان السياسي، مقابل تضخيم دور الزعيم عبر تحجيم أو إلغاء دور رفاقه الذين سُجنوا (في الداخل والخارج: السجون الفرنسية بالجزائر سجن لمبيز والاحراش..) وأُبعدوا وفُقّروا بل أعدم البعض منهم كما كان حال بورقيبة وتعذّب البعض منهم أكثر مما تعذب القائد لأسباب أو أخرى… فما بالك بالمناضلين القاعديين الذين قدموا تضحيات واسعة منذ الثلاثينيات كسكان حي ترنجة (باب الخضراء) من المطاوة أو النازحين من سكان الحامة… فمنهم من استشهد ومنهم من ظل في السجن لفترات طويلة ومنهم من أبعد ومنهم من نفي ومنهم من حكم عليه بالإعدام..
وفي مرحلة الخمسينيات وبعد اندلاع النضالات العنيفة وتمدد الحركة الوطنية جغرافيا واجتماعيا اندفع آلاف التونسيين في/ومن مختلف المناطق والقرى والمدن للقيام بواجبهم تجاه وطنهم فلم تتردد سلطات الاحتلال الامنية والعسكرية من الانتقام من السكان والقيام بعمليات تمشيط لبعض القرى والمدن وترويع السكان واغتصاب النسوة وقتل الأطفال وتدمير البيوت كما حصل لبعض مدن الوطن القبيلي والساحل والجنوب… إضافة إلى إصدار المحاكم الجنائية الفرنسية خلال سنة 1952 لوحدها نحو 7258 حكما ضد مناضلين منها 743 بالأشغال الشاقة والإبعاد ونحو 78 حكما بالإعدام وما يؤسف له أن الذاكرة الوطنية المكتوبة لا تذكر هؤلاء ولا تخلد ذكراهم حتى إطلاق أسماءهم على أنهج وشوارع المدن والقرى التي مازال البعض منها يحمل أسماء شخصيات فرنسية خدمت الاستعمار أو أنها تعرّف بأرقام باهتة لا معنى لها في حين أنه بالإمكان تكريم المناضلين والشهداء الذين ضحوا من أجل أن تحيا تونس حرة ومستقلة بإطلاق اسمائهم على الساحات العامة والشوارع والانهج والمدراس والمؤسسات الثقافية والاجتماعية….
وما يؤسف له حقا هو أن الاتجاه الرسمي في كتابة التاريخ قد ضخّم جهات ومناطق معينة دون غيرها كما أكد على دور زعامات محددة دون أخرى بل أن التركيز على دور الزعيم على حساب رفاقه رفاقه سواء في مرحلة التحرر الوطني أو دورهم في بناء الدولة الوطنية الحديثة.. لذلك ظل جيل أو أكثر لا يسمع إلا عن الزعيم الحبيب بورقيبة دون شخصيات تميزت بمستواها العلمي الرفيع ونضالها الوطني المتميز في التأسيس كمحمود الماطري أو عبد العزيز الثعالبي أو المنصف المستيري أو علي البلهوان أو محي الدين القليبي أو علي الزليطني أو أحمد بن ميلاد أو الباهي الادغم أو الطاهر لسود وارشيد ادريس… كما كان هناك توجه رسمي للتركيز على دور الزعيم الحبيب بورقيبة كبان للدولة الوطنية الحديثة دون الحديث عن من ساهم معه مساهمة مباشرة في بناء تلك الدولة كل من زاوية مهامه ورؤيته الفكرية: التربية والتعليم والصحة والتجهيز والمالية… كأحمد بن صالح والباهي الادغم والصادق المقدم والمنجي سليم والاسعد بن عصمان… إلى جانب عشرات بل مئات من المهندسين والإداريين والاطباء ورجال التعليم الذين ضحوا كل من زاوية اختصاصه من أجل الاستقلال وبناء ركائز الدولة الوطنية الحديثة…
صحيح أن أساتذة التاريخ بالجامعة التونسية قد درّسوا تاريخ تونس وكتبوا حوله. كما قاموا بتاطير عشرات رسائل الماجستير والدكتوراه تضمنت تفاصيل وجزئيات التاريخ الوطني أحداثا وأشخاصا ومناطق وجهات (التاريخ الجهوي أو المحلي) كما أثاروا قضايا وإشكاليات معرفية دقيقة. كما لعبت مؤسسة التميمي (الخاصة) للبحث العلمي والمعلومات دورا رياديا (منذ سنة 1999) في نقل قضايا تاريخ تونس للمجال العام عبر مؤتمراتها وندواتها وسينيماراتها الأسبوعية وإفساحها المجال لكل من ساهم من الأحياء في النضال الوطني وبناء الدولة الوطنية لتقديم شهاداته ما خلق نقاشات هامة أحيت الذاكرة الوطنية وقدمت وثائق شفوية شديدة الأهمية… وكم نحن بحاجة أكيدة لمشروع وطني للاهتمام بتاريخنا تتكفّل الدولة عبره بالتشجيع على نشر مختصرات الرسائل الجامعية ذات العلاقة بتاريخ تونس، بعد موافقة لجنة علمية وإدارية مختلطة، في كتيبات بأسعار في متناول الجميع كما من الضروري أن تهتم مختلف وسائل الإعلام بتاريخ تونس: صفحات أسبوعية خاصة أو من خلال برامج إذاعية وتلفزية قارة لا أن تظل تنتظر المناسبات المحددة لإثارة تاريخ الوطن…
وبعد لقد تمكن الشعب التونسي ثورة شعبية فريدة بشكلها السلمي وبمضمونها الديمقراطي والإنساني (الكرامة) وهو بذلك أسس لدولة جديدة بأسس جديدة فكم نحن بحاجة لصياغة رؤية جديدة لتاريخ تونس المعاصر تُنصف المنسيين والغيبيين من تاريخ تونس المعاصر الذين ضحوا بأشكال وطرق مختلفة من أجل أن ننعم نحن بالاستقلال وحتى تعتبر الأجيال القادمة بعمق تجذر فكرة الاستقلال لدى الشعب التونسي التي تجسّدت خلال الثورة وخلال محاولة إقامة إمارة بنقردان التكفيرية التي تمّ إحباطها بفضل القوات العسكرية والأمنية المختلفة ولكن أيضا وخاصة بفضل سكان بنقردان ما يشير مرة أخرى لتجذر فكرة الاستقلال وسيادة الدولة لدي التونيسيين جميعا أينما وجدوا رغم المعاناة اليومية والضيم والحرمان: “يقول الفقير «خسرت وطني الصغير منزلي، وربحت وطني الكبير تونس» كما يقول: “بلادي قبل أولادي، وطني قبل بطني” ونعتقد أن تلك الأقوال بل الحِكَم هي موروث متجذر وعميق في التركيبة النفسية والثقافية والاجتماعية لكل التونسيين، فقراء أو أغنياء مهمشين ومنسيين متعلمين أو أمّين…
أستاذ التاريخ السياسي المعاصر والراهن جامعة منوبة تونس.

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock