تدوينات تونسية

المساواة في الميراث بين الجنسين: رهان حقيقي أم تلهية (1) ؟

عادل بن عبد الله

في الوقت الذي خفضت فيه وكالة التصنيف الائتماني تونس إلى B2، بحكم تراجع القوة المالية واحتياطات الدولة من العملة الصعبة وتفاقم ديونها لتصل نسبتها إلى 70 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي خلال العام الماضي (وهو ما يعني حسب أحد المحللين أنّ الالتزامات المالية تخمينية ومعرّضة لمخاطر ائتمانية مرتفعة، كما يعني غياب المناخ الاستثماري الملائم)، وفي الوقت الذي تحولت فيه “وثيقة قرطاج” إلى انقلاب ناعم على الدستور؛ وإلى مظهر من مظاهر عودة النظام الرئاسوي لينسف النظام البرلماني المعدّل، وفي الوقت الذي “تأنثت” فيه أغلب الفئات الاجتماعية (بمن في ذلك الذكور)، وأُخضعت لسلطة الذكور المهيمنين في المركّب الجهوي-المالي-الأمني الذي يمسك بمقاليد السلطة والثروة منذ الاستقلال الصوري عن فرنسا.. في هذا الوقت المحكوم بأزمة “بنيوية” تتجاوز البعد الاقتصادي الصرف إلى البعد المجتمعي العام، تعمل بعض الأطراف “الحداثية” على الدفع بقضية المرأة إلى مركز السجال العام، بل تحرص على جعلها مرة أخرى محورا للاستقطاب الأيديولوجي والصراع الهوياتي. وهو أمر لا يخفى ارتباطه بالاستحقاق الانتخابي البلدي، ولكنه يتجاوز هذا البعد المباشر ليرتبط بـ”رؤية لائكية للعالم” يبدو من الصعب أن تتجنب الصراع مع الوعي الجمعي العفوي من جهة أولى، ومع أطروحات الإسلام السياسي من جهة ثانية.

لا يطمح هذا المقال في جزئيه إلى طرح مجمل القضايا المرتبطة بالمرأة في المجتمع التونسي، بل سيسعى فقط إلى التركيز على مسألة مفردة هي قضية المساواة في الميراث، وهي قضية لم تُخف “لجنة الحريات الفردية والمساواة” برئاسة الأستاذة بشرى بالحاج حميدة؛ أنها من بين أولوياتها هي وباقي شركائها في المجتمعين المدني والسياسي المحسوبَين على القوى “الحداثية”. مبدئيا، تعكس هذه اللجنة ذاتها توازنات السلطة وآليات اشتغالها منذ وصول السيد باجي قائد السبسي إلى قصر قرطاج؛ بعد الانتخابات الرئاسية في سنة 2014. فرغم محدودية الصلاحيات الدستورية للرئيس، فإن أغلب الملفات الهامة قد أصبحت من مشمولات قصر قرطاج، وهو واقع سياسي يعكس ضعف رئاسة الحكومة والبرلمان على حد سواء. وقد عكست “لجنة الحريات الفردية والمساواة” رغبة رئيس الدولة في استثمار الملف النسوي ضد خصمين سياسيين أساسيين: أولهما هو “شريك” النداء في الحكم، أي حركة النهضة التي سيواصل الرئيس سياسة ابتزازها؛ إذ عليها إثبات المزيد من “مدنيتها” و”حداثتها” و”تونسيتها” بعدم الاعتراض على توصيات اللجنة (كما أثبتت ذلك من قبل برضاها باتفاقية سيداو والتطبيع مع المثلية الجنسية، وغير ذلك من التشريعات المستفزة لقاعدتها الانتخابية المحافظة أو المتدينة).. أما الطرف الثاني الذي استهدفه الرئيس فهو “شركاء” النداء في “العائلة الديمقراطية”، من البورقيبيين والتجمعيين واليساريين. إذ كثيرا ما شكك هؤلاء في قدرة الرئيس وما تبقى من حزبه على “حماية النمط المجتمعي التونسي” بعد تحالفه مع حركة النهضة.
مهما كانت الدوافع السياسية والرهانات الرمزية التي ترتبط بقضية المساواة في الميراث، فإنه يصعب مقاربتها إلا بعد وضعها في إطار حزمة كاملة من المقترحات التي تهدف إلى ترسيخ ما يُسمّى بـ”النمط المجتمعي التونسي” والتصدي للقوى المهددة له.
وليس يعنينا في هذا المقال أن نقف عند ارتباط تلك الحزمة من المقترحات بإرادة خارجية (فرنسية تحديدا) تشرط المساعدات والقروض بجملة من “الإصلاحات” المرتبطة أساسا بالبعد الثقافي؛ أكثر من ارتباطها بالإصلاحات الاقتصادية مثلا، بل إننا نستطيع أن نلاحظ “تسامحا” مع فشل الحكومات المتعاقبة في عملية الإصلاح الاقتصادي، وهو تسامح يزداد طرديا كلما نجحت تلك الحكومات في فرض الإصلاحات “الثقافوية” التي لا يخفى تصادمها مع الوعي الديني لمجموعة كبيرة من التونسيين. وهو تصادم يجعل “النمط المجتمعي التونسي” القائم على البورقيبية (وتحديثها الفوقي القسري)؛ مجرد نسخة مشوّهة من “النمط المجتمعي الفرنسي” القائم على المبادئ الجمهورية في صيغتها اللائكية الأكثر تطرفا. ونحن نعني بالتطرف هنا تحوّل الدولة من طرف محايد في المسألة الدينية (وظيفته أساسا هي ترتيب العلاقة بين الديني والسياسي) إلى منتج لخطاب ديني/ وجودي منافس لسائر الخطابات التقليدية، وإن ادّعى العلمانية. ولا شك في أنّ وظيفة أغلب النخب العلمانية (سواء أكانت في المعارضة أم في الحكم، في اليمين التجمعي أم في اليسار الثقافي) هي أساسا خدمة هذا التصور اللائكي لدور الدولة ولطبيعة علاقتها بـ”الشؤون الدينية”.
وسنحاول في الجزء الثاني من هذا المقال أن نساهم في السجال العام بطرح جملة من الأسئلة، وتقديم بعض العناصر التي قد تفيد في الإجابة عنها. وسنكتفي بأهم الإشاكاليات بعد صياغتها على النحو التالي:
لماذا تصرّ النخب الحداثية على أن تكون قوة اقتراح متصادمة في الأغلب الأعم مع هوية الشعب التونسي، ولماذا تنحصر قوة الاقتراح هذه أساسا في المسائل الهووية دون المسائل السياسية والاقتصادية التأسيسية؟ وإن شئنا أن نطرح السؤال بصورة أخرى لقلنا: لماذا لا نجد نخبة تسعى إلى تأسيس حقيقي بقدر ما نجد نخبة ارتكاسية محافظة تسعى إلى شرعنة القديم رغم كل ادعاءاتها التقدمية؟
هل يمكن الحديث عن مساواة بين الجنسين؛ دون الحديث قبل ذلك عن مساواة بين الفئات الاجتماعية وبين السواحل والدواخل، بل دون الحديث عن مساواة داخل الجنس الواحد، أي كيف يمكن للمرأة “الحداثية” أن تطلب المساواة مع الرجل، وهي تصر على إعادة تشغيل مخيال العبودية عبر ثنائية حرّة/أَمة عند تعاملها مع النساء اللاتي لا يشبهنها أو لا يتبنّين منظومات قيمية وسلوكية مماثلة، خاصة من الإسلاميات؟
هل تعكس ردة الفعل العنيفة من لدن الإسلاميين والمحافظين على مشروع المساواة في الميراث قناعات دينية محضة، أم إنها تعكس أيضا رهانات مادية وتراتبيات اجتماعية يرفض الوعي الذكوري التنازل عنها؟ ولماذا يتحرك هؤلاء في قضية المساواة في الميراث وكأنها آخر حصون الدين، أو وكأنها أول ما اندك من حصونه بمدافع نابليون ومن غزاهم بعده؟
عندما يعتبر الإسلامي (أو المسلم العادي) نظام المواريث جزءا من عقيدته (وليس فقط مجرد تفصيل تشريعي لا أهمية له)، فكيف يمكن التعامل معه انطلاقا من المبدأ الدستوري القاضي بحرية الاعتقاد؟ أي كيف يمكن للفقه الدستوري أن يتعامل مع هذه القضية ومع غيرها من القضايا إذا ما جارينا الإسلاميين (والكثير من المسلمين) في أنّ التشريع هو جزء ماهوي من الدين (فالمسلم -حسب هذا المنظور- لا يكون مسلما إلا بعقيدة وشريعة)؟
كيف يمكن للنخب الحداثية أن تقنعنا بقدرتها على إحداث تغييرات حقيقية في آليات توزيع السلطة والثروة داخليا، وإحداث مراجعة جذرية للعلاقة اللامتكافئة مع الخارج، وهي مصرة على الدفاع عن الخرافات المؤسسة للنمط المجتمعي التونسي، أي كيف يمكن لخطاب متحالف موضوعيا مع النواة الصلبة للمنظومة “الفاسدة” (وبالتالي مع سادتها في الغرب) أن يكون خطابا “تقدميا” ومعاديا “للامبريالية”، بل كيف يمكنه أن يكون حتى مجرد خطاب “إصلاحي” في زمن الفساد المُمأسس هذا؟
“عربي21”

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock