مقالات

في ذكرى استشهاده: 1 مارس 1924 المسار التاريخي للبطل الشعبي محمّد الدغباجي

الخال عمار جماعي

ولد البطل محمّد الصّالح الدغباجي الزغباني الخريجي سنة 1885 في منطقة “وادي الزيتون” من عمل الحامّة وهي منطقة ذات مناخ صحراوي جافّ في عائلة تعيش على الرّعي وتتبع مواضع الخصب. أصيب باليتم مبكّرا فربّته زوجة أبيه “هنيّة”. وقد أخذ من العلم بعض القرآن وفكّ الخطّ في كتّاب “الدوّار”. عاش طفولته وأوّل شبابه كأترابه في تلك الربوع على رعي بعض القطيع لأبيه. ولمّا بلغ سنّ الثامنة عشرة التحق بواجب الخدمة العسكريّة القسريّة بعد أن توطّن الاستعمار في الجنوب. وقد دامت ثلاث سنوات اشتهر فيها بدقّة رميه. وقع بعدها تسريحه ليعود لحاله الأوّل. لكن أمام سنوات الجفاف وقلّة ذات اليد والحاجة يضطرّ محمّد الدغباجي إلى الالتحاق من جديد بالعسكر الفرنسي. لكنّ هناك رواية أخرى تقول أنّه أمام فشل حركة تمرّد “مشايخ بن زيد” سنة 1918 شجّع المشايخ الشباب على التدرّب في الجيش الفرنسي.

في فترة الخدمة العسكرية الثانية أظهر الدغباجي تبرّما بسلوك المستعمر ومعاونيه من “قوميّة” و”صبايحيّة”. وكان في أثناء ذلك على الجبهة الشرقيّة في ليبيا حركة مقاومة واسعة بقيادة “خليفة بن عسكر النّالوتي” تقف في وجه الاستعمار الإيطالي وتستنفر الناس للالتحاق بصفوفهم بتشجيع من “الباب العالي” بالأستانة/تركيا. وقد وصلت أخبار هذه المقاومة الدغباجي وبعض رفاقه فكتم ذلك وعزم على الفرار من الجنديّة حالما تكون الفرصة سانحة. وقد تمّ له ذلك عندما وقعت الإستعانة بالفرقة التي ينتمي إليها لمحاصرة “حصن ذهيبة” الذي أعلن التمرّد. في تلك الواقعة رأى الدغباجي أنّه في الصفّ الخطأ وأنّه يخنق بالحصار أبناء عمومته وأنّ صفّ خليفة بن عسكر أولى به. عندها قرّر الفرار حاملا سلاحه وقد أصبح ممكنا الالتجاء لمعسكر القائد خليفة بن عسكر لقرب الحدود وعلمه بأنّ البعض من أبناء بلدته قد انضمّ للمقاومة اللّيبيّة.

وثمّ له ذلك حيث رحّب به القائد الجديد وعاد معه لفكّ الحصار عن حصن ذهيبة. وقد أظهر الدغباجي اقتدارا في الحرب ودقّة في إصابة الهدف وشخصيّة قويّة جعلت القائد خليفة بن عسكر يكلّفه بقيادة فصيل “بني يزيد” العسكريّ. وحين تواترت الأخبار عن معاناة أهله من ويلات الإستعمار الفرنسي وحجم المظالم التي أوقعوها به قرّر الدغباجي الإلتحاق بالمقاومة في الجنوب التي كان يقودها “البشير بن سديرة الهمّامي” بجبال “هدّاج” بقفصة. وما لبث أن أخذ طريق العودة عبر جبال الطباقة التي تمتدّ من ليبيا إلى قفصة بعد استشارة “البيّ خليفة” (وهو ما كان يلقّب به آن ذلك). وقد حمّله بعض المؤونة والسلاح.

استطاع بعد رحلة شاقّة مع بعض أبناء بلده أن يتّصل بالقائد الجديد ويصبح من جنوده. وقد حضر معه أوّل وقائعه: واقعة “خنقة عيشة” تقريبا سنة 1919. وكان ذلك عندما تفطّنت السلط الإستعماريّة لحركة مريبة في جبل “حنقة عيشة” فأرسلت قوّة أغلبها من فرسان الصباحيّة لمطاردة المتمرّدين. ووقعت معركة بين الجانبين أسفرت عن قتل أعوان السلطة وغنم مجموعة من الأسلحة والخيول.

ثاني الوقائع تحت قيادة البشير بن سديرة كانت واقعة “المحفورة” باعتبار أنّها منطقة تقع في تراب قفصة وهناك تمّت عمليّة مطاردة بعد وشاية وقد وقع تبادل لإطلاق النّار بين القوّة المطاردة بقيادة عامل قفصة “نصر بن سعيد” والمقاومين بقيادة بشير بن سديرة وقد تمكّن المقاومون من الهرب من الكمّاشة ووقع فقط “حمد بن الباش شاوش” أسيرا. وقد اتّصل هذا العامل بالدغباجي لإقناعه بالإبتعاد عن “برّ الهمامة” نظرا للمشاحنات القبليّة بينهم وبين أهله “بني زيد”.

بعد هذه الواقعة قرر الدغباجي الإستقلال بعصابته واتجه برفاقه نحو منطقة السقي حيث أهله وقبيلته ولكن حين علم منهم بأنّه مبحوث عنه هناك إتجه شمالا إلى قبيلة “نفّات” من عمل صفاقس وبقي متنقّلا حذرا حتّى واقعة “المغذية” (أفريل 1920).

وفي الأثناء علم الدغباجي بما يتمّ من تضييق على تجارة الملح التي يمتهن تهريبه بعض سكّان منطقة “حديفة” وخاصّة ماكان يأتيه البريقادي “بولو Bolo” من إهانة للسكّان فقرّر التصدّي له في مسار رجوعه. فأرداه قتيلا مع ثلاثة من أعوان الديوانة يوم 1 جانفي 1920 وهو ما ألّب عليه السلط الإستعماريّة أكثر وأصبح مطلوبا أكثر عندها. وبسبب هذه الحادثة سوف يحكم عليه بالإعدام. و تسمّى هذه الواقعة “واقعة الزلّوزة” وهو إسم الدوّار الذي كان نازلا به الدغباجي. نتج عن هذه الحادثة تشريد وانتقام من سكّان بلده الحامّة حيث وضعوا في محتشد خارج البلاد بمنطقة تسمّى “أم العظام” (بشيمة الآن) بل أجبرت السلطة أهله على حمل السلاح ومطاردته.

وعلى إثر هذه الواقعة بدأت الإتصالات بينه وبين خليفة الحامّة عبد العزيز الحمروني الذي كان يغالط السلط الإستعماريّة كلّما سألوه عن مكانه. وهو ما جعلهم يعزلونه ويعيّنون عمّار بن سعيد الذي قاد حملة مطاردة للدّغباجي في أكثر من 300 فارس. وقد ظفر به في دوّار “الغرايرة” بمكان إسمه “المغذية” من أراضي هنشير سيدي مهذّب من ولاية صفاقس. وذلك يوم 6 أفريل 1920. وقد فاجأتهم القوّة في ذلك المكان ممّا رجّح كفّة المطاردين له. وبعد معركة قويّة وسقوط بعض رفاقه جريحا وإحكام الطوق حوله وإصابته هو أيضا قرر الإستسلام. ولكن تواطئ أفراد من أبناء عمومته بعد أن عزّ عليهم تسليمه للسلط، جعله يفلت من الأسر بعد أن إشترط أن يبقى سلاحه معه. وقد تمّ له ذلك بعد أن طلب الماء فوجّهوه نحو خيمة ومنها أفلت بعيدا مع بعض رفاقه بعد أن أشهر سلاحه.

ومن هناك أخذ طريق العودة شرقا نحو “خليفة بن عسكر” من جديد. فإتجه جنوبا نحو جبال مطماطة وقد جنّدت السلط الإستعماريّة فرقة لمطاردته بعد أن علمت أنّه جريح وفي قلّة من رفاقه. وقد ألحّت فرقة الشاوش “الكيلاني المحضاوي” في المطاردة حتّى ظفرت به في العراء بمكان إسمه “الجلبانيّة” وكان معه عمر كريد الحامدي وبلقاسم بن لطيّف الجماعي والمبروك دروبة ورفيق غمراسني فارقهم قبل الواقعة. واستطاع الدغباجي ورفاقه من قتل الصبايحيّة وغنموا منهم أسلحة ومؤونة لمواصلة طريق العودة نحو طرابلس.

وصل الدغباجي ورفاقه طرابلس في أواخر النّصف الأوّل من سنة 1920 وهناك حضي بمكانة مرموقة عند قائده السابق. وتزوّج هناك بمسعودة الدبابي وأنجب منها بنتا. وبقي هناك يبادل الرسائل مع عامل قابس وقد يئس من العودة بعد أن وقعت محاكمته غيابيا بالإعدام يوم 27 أفريل 1921. ولمّا وقع القبض على خليفة بن عسكر بحيلة من الطليان كان الدغباجي أحد أسراهم. وقد سلّموه للسلط الاستعماريّة حيث أعيدت محاكمته حضوريّا لإقرار الحكم الإبتدائي.

وفي صباح يوم 1 مارس 1924 تمّ تنفيد حكم الإعدام على الدغباجي في ساحة سوق الحامّة بلده وبين أهله ليكون عبرة. وقد أظهر شجاعة عظيمة لحظتها بعد أن رفض وضع حجاب على عينيه. انطلقت زغردة زوجة أبيه هنيّة لتزفّ الشهيد إلى ربّه.

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock