تدوينات تونسية

أبشع من أيّ عمليّة تعذيب

عبد اللطيف علوي
أبشع من أيّ عمليّة تعذيب وقلع للأظافر والأسنان واستئصال للقلب والكبد والمريء والكليتين يمكن أن يتعرّض لها الإنسان وهو على قيد الحياة ومن غير بنج، هي عمليّة إصلاح الإنتاجات الكتابيّة أو الإنشاء العربيّ، سمّوها كما تسمّونها.
يا أخي قد يهون الأمر قليلا، لو كان الحال أنّني أصلح لتلاميذ من المجر أو من “أمريكا اليونانيّة”، أو من بلاد الاسكيمو أو الهولو لولو أو من قبائل الزّولو انكاتا أو من ضبّوط القردة الاسكندينافيّة، أمّا أن يكون هذا حال تلاميذ عرب لآباء وأمّهات عرب ولأجداد عرب، فهذا والله ملطمة كبرى ومندبة ومناحة ومذبحة ومشرحة لم ير النّاس لها مثيلا في أيّ عصر من عصور انحطاطنا التي هي كثيرة والحمد لله.
ابن خلدون قالها من أوّل الدّنيا، ثمّ اتّكأ على جنبه الأيسر وارتاح: “إنّما تكتسب اللّغة بالسّماع والاستعمال”.
أبناء جيلنا على الأقلّ، تربّوا على برامج تلفزية ومسلسلات دينية باللّغة العربيّة فضلا عن المطالعة، فتكوّن لدينا الحسّ اللّغويّ المرهف حتّى بدون قواعد وعشقنا جماليّاتها، وكان يكفي أن تسمع جملة واحدة من نوع: “ردّها عليّ إن استطعت”، لتعشق هذه اللّغة الشّامخة المهيبة وتتعبّد في محرابها وتتذوّقها وتقدّر النّاطقين بها وتقف لهم إجلالا، مثلما كنّا نشعر في الثّانوي أمام أساتذتنا…

اليوم ماذا بقي لهؤلاء التّلاميذ يربطهم بهذه اللّغة الغريبة، الّتي بالت عليها الكلاب والثّعالب، وغمّستها الفضائيّات في مجاري الصّفاقة والابتذال، وحنّطها مثقّفو الصّالونات في القوالب الجافّة الميتة، ماذا بقي لهم كي يشعروا بأيّ نوع من الانتماء لهذه اللّغة الذّليلة.
حين أضع أمامي أوراق التّلاميذ وأشرع في إصلاحها، ينتابني فجأة مغص في الأمعاء يقطّعها بمثل حدّ السّكاكين، ويفاجئني ما يفاجئ المرأة الحامل حين يندفع من بلعومها فجأة دفق القيء والمرار، ويتهرّأ قلبي كحذاء قديم، وتتقطّع أنفاسي وتغيم عيناي وتتقرّح معدتي وتيبس مفاصلي وأصاب على الفور بما يشبه جنون البقر… كيف يمكن أن تصبر على ما تقرأ؟ كيف يمكن أن لا تبكي وتضحك من الهستيريا وأنت تقرأ: “جبَدْناها إلى اللَّوطِ”، و”لمْ قدْ سمعتُها”، أو “ضبحتُ خاروفي المُقرانُ”…؟
كيف يمكن أن تبقى على قيد الحياة، وأنت تقرأ أكواما من مثل هذا الكلام كلّ يوم، وتصلح عبثا ما لن يصلح إطلاقا وإلى الأبد، وتتحمّل وحدك مسؤوليّة الإندثار المرّ المميت، للغة كانت ذات يوم ملهمة الدّنيا شعرا وفلسفة وفكرا وعلوما.
ماذا يستطيع فرد أعزل فقير ضعيف مثلي أن يفعل أمام تسونامي الهلاك الجماعيّ؟
إلهي… إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي.
#عبد_اللطيف_علوي

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock