تدوينات تونسية

الإحالة على شرف المهنة – الجزء الثاني

الصادق الصغيري

لا يدري لمَ يفقد التحكم في مشاعره، ويفقد السيطرة على تصرفاته كلما تعلق الأمر بلحظة وداع وفراق، لمَ يلفه الصمت وينعقد لسانه وتنهمر دموعه، لا يدري لم تشده رعشة خفية تعقبها موجة من البرد تسري في كامل بدنه يهتز لها جسده النحيل وتصطك لها أسنانه دون حول منه ولا قوة، أكثر من مرة بذل جهدا في الإستعداد لتلك اللحظة.

حاول أكثر من مرة أن يلزم نفسه برباطة الجاش وأن يخضعها إلى المعقول وسنن الحياة، وهاهو اليوم وقبل الموعد بربع ساعة، يستدعي نفسه من جديد للوقوف أمامه ليحدثها حديث المحب، وحديث المتفهم، وحديث العارف بدروب الحياة وتضاريسها: يا نفس ليست المرة الأولى التي تفارقين أحباء ومهج،، يا نفس ليست المرة الأولى التي يضعك فيها القدر هذا الموضع ويضطرك إلى قطع صلة الود مع أصدقاء وأخلاء ورفاق درب ومسيرة، أتذكرين يوم قسى الزمان وفارقت الأهل والاحباب والأم والزوجة والوالد والولد،، أتذكرين يوم فارقت مرابع الصبا ومراتع الطفولة وحضن الأمومة،، أتذكرين يوم فارقت مدارج العرفان وقاعات التعلم وأتراب الدراسة،، أتذكرين يوم فارقت أغلب أحلام الشباب، ويوم فارقت جل أحلام الكهولة،، يا نفس يكاد الفراق يكون لك قرينا والوداع لك سمة،، فما الجديد؟ يا نفس، لا يفزع من الفراق إلا من ظن أنه ذاهب إلى الأسوأ،، ولا يرتعد أمام الفراق إلا العاجز عن الوصل وعقد أواصر الود، لا يهرب من الفراق إلا الذي ارتضى الركود وفقدت أقلامه القدرة على الصرير.
إطمأن إلى نفسه مبتسما، مواسيا إياها إنه مجرد إمتحان جديد وعليها اجتيازه. أخذ من الهواء نفسا طويلا، إنشرح معه صدره وتناسقت معه أسارير وجهه، وعزم على مقارعة لحظة الوداع بأسلوب مغاير عما ألفه، ويتناسب مع تجربته الطويلة وخبرته الثرية وسنه الذي ما عاد يليق به الصمت ساعة الكلام، أو الحزن لحظة الإبتسامة. صعد المدرجات التي تقود إلى قاعة الإحتفاء والوداع بخفة لم يعهدها وكأنه يضع قدميه لأول مرة بالمؤسسة وليس مودعا لها في يوم المداومة الأخير.

اترك رد

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock