تدوينات تونسية

ما أقسى أن تكون خارج السّجن !…

عبد اللطيف علوي
خرجت ﻷجد كلّ شيء قد توقّف تماما على شفير الهاوية، لا شيء يستطيع العودة إلى الوراء، ولا التّقدّم إلى اﻷمام خطوة واحدة، دون أن يتدحرج إلى أبعد نقطة في الجحيم… أخرج مقطوع اليدين والرّجلين… جسدا نحيلا مهدودا، وذاكرة مثقوبة برصاص كثيف طائش وأفقا غائما بلا أفق… ماذا سأعمل في قرية مثل “عين البيّة”، بعد أن حدّدت الدّولة إقامتي، بموجب المراقبة اﻹداريّة؟
أمّي خسرت معركتها تماما مع الزّمن، واستسلمت له، كما يستسلم جنديّ مهزوم، ظلّ يحارب وحده عمرا كاملا حتّى نفذت ذخيرته، ولم يبق في جيبه سوى رصاصة واحدة، أقصى ما يستطيعه أن يصوّبها إلى رأسه ويسقط بهدوء داخل الخندق اﻷخير، أو ينتظر رصاصة الرّحمة تأتيه من الخلف… أختي سناء تعيش في عزلتها غريبة عن نفسها وعن أهلها، منطوية داخل قوقعة مدفونة في قاع كهف سرّيّ بعيد، وفدوى معلّقة على حبل العدالة، تنتظر مصيرا مظلما… لا أعرف ماذا عليّ أن أفعل كي لا تذبح هي أيضا مثلما ذبح عامر الصّالحي على سرير “بروكوست”، من قال إنّ “بروكوست” لم يعد موجودا بيننا؟ ومن قال إنّ حكايته مجرّد أسطورة؟… منذ أعوام وأنا أراه أينما حللت، في الطّريق وفي المعهد وفي المقهى وفي السّجن، وفي مركز الحرس وفي كلّ شبر تطؤه قدماي… “بروكوست” سفّاح الميثولوجيا الاغريقيّة، وقاطع الطّريق الّذي كان يجوس بين أثينا و«ايلوزيس»، يستدرج من يقع في يده من عابري السّبيل، ويأمره أن يستلقي على سرير في خيمته المتطرّفة، فإذا كان طوله مناسبا تماما لطول السّرير نجا، وإذا كان أطول منه قليلا يقطع ما بقي من جسده خارجه، وإذا كان أقصر منه قليلا أو كثيرا، يمطّط يديه وساقيه حتّى تتناسب تماما مع طول السّرير، وفي الحالتين يمزّق أطرافه ويطحن عظامه. تقول الأسطورة إنّه في النّهاية تغلّب عليه «تيزي» وأذاقه من نفس ما كان يذيقه لضحاياه… ارتحت كثيرا لتلك النّهاية وتمنّيت لو أنّها تتكرّر في كلّ زمان وفي كلّ مكان… لكنّني اليوم صرت أشكّ في ذلك كثيرا، رأيت نفسي وحيدا كالذّبيحة المستسلمة، ورأيت “بروكوست” يشدّني بالمسامير من يديّ ورجليّ إلى السّرير كالمسيح، ثمّ يسحب خناجره وسواطيره وهو في غاية الاطمئنان والاسترخاء…
عدت من المركز بحكم جديد، خمس سنوات أخرى (رقابة ادارية) من الحصار والإذلال والذّبح البطيء، عليّ أن أقضيها داخل السّجن الكبير، اليوم قرّرت الدّولة أن تسجنني داخل بيتي، في قريتي البائسة، على نفقتي الخاصّة… وانتزعت منّي بطاقة التّعريف… عدت بلا هويّة، بلا أيّ انتماء وبلا أيّ حقّ في الحياة… كان لذلك معنى! وأيّ معنى!… ماذا بقي يربطني بهذه الدّولة سوى بطاقة التّعريف؟ فليأخذوها، ما داموا قد أخذوا منّي كلّ شيء…
لمّا وصلت إلى البيت، سألتني أمّي:
– ماذا فعلوا بك يا كبدي؟ هل ضربوك؟
ابتسمت في شحوب، كما ترتسم على وجه الميّت ابتسامته اﻷخيرة:
– ليتهم فعلوا يا أمّي!… ليتهم ضربوني أو عذّبوني… لقد وجدوني ميّتا… فاستكثروا عليّ حتّى الضّرب، وسلّموني تصريحا بالدّفن!
#عبد_اللطيف_علوي
#أسوار_الجنة
#سيرة_الثورة

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock