تدوينات تونسية

المساواة في الإرث… ماذا لو تم تمريرها ؟!

أحمد الرحموني
رئيس المرصد التونسي لاستقلال القضاء
رئيس دائرة بمحكمة التعقيب
المساواة في الإرث هي بمعنى التسوية في نصيب الذكر والأنثى المنتقل اليهما بموجب الإرث وذلك خلافا لقاعدة “للذكر مثل حظ الانثيين” التي أخذ بها نظام الإرث الإسلامي وغالبية قوانين الأحوال الشخصية في الدول العربية والإسلامية.
وقد اكتست هذه القضية -منذ خطاب رئيس الجمهورية في 13 أوت الفارط بمناسبة العيد الوطني للمرأة- طابعا رسميا تجسم في تكليف لجنة خاصة (سميت لجنة الحريات الفردية والمساواة) لتعميق النظر في الموضوع إلى جانب محاور أخرى (من بينها إمكانية زواج المسلمة من غير المسلم).
ومن المنتظر -حسب مصادر إعلامية- أن تقدم لجنة الحريات الفردية والمساواة يوم الثلاثاء القادم (الموافق ليوم 20 فيفري 2018) تقريرها إلى رئيس الجمهورية الباجي قائد السبسي (الشارع المغاربي – 17 فيفري 2018).
وتذكر نفس المصادر أن رئيسة اللجنة (النائبة بشرى بالحاج حميدة) قد وصفت التقرير الذي سيصدر عن اللجنة بـ”الثّوري” ! قائلة أن “التّقرير سيكون ثوريّا بمفهوم أنّ تونس ملتزمة اليوم بوضوح بالمساواة بين الجنسين وبأنّ الحريات الفردية التي لم تكن موجودة في البلاد ستُصبح مضمونة بنصوص تتناسق مع الدستور الذي ينصّ على المساواة بين المواطنين والمواطنات وعلى الحريات الفردية” ( الشارع المغاربي – 23 جانفي 2018).
وقد سبق لرئيس الجمهورية التأكيد على ذلك في خطابه المذكور بقوله “إن المساواة بين الرجل والمرأة التي أقرها الدستور يجب أن تشمل جميع المجالات بما فيها المساواة في الإرث… ولكن، لا أريد أن يعتقد البعض أنه حين نتجه نحو التناصف فإننا نخالف الدين وهذا غير صحيح !” معتبرا أن “المسألة كلها تتمحور حول المساواة في الإرث”.
وأضاف رئيس الجمهورية في تصريحه المثير للجدل “أن الإرث ليس مسألة دينية وإنما يتعلق بالبشر، وأن الله ورسوله تركا المسألة للبشر للتصرف فيها!” (موزاييك اف.ام – 13 أوت 2017).
ويبدو -كما لاحظت سابقا- أن المسألة بدأت تأخذ بعدا أكثر خطورة بعد خطاب الرئيس الفرنسي ماكرون بتاريخ 1 فيفري الجاري أمام مجلس نواب الشعب والذي تضمن إشادة بمبادرة رئيس الجمهورية حول المساواة في الإرث رغم أن الأمر يتعلق بأفكار مطروحة للنقاش في إطار لجنة فنية لم تنه بعد أعمالها مما يوحي بأن ذلك المشروع بدأ يلقى دعما علنيا من دول خارجية (حتى قبل استكماله!) ويخرج المسألة من دائرة الجدال الوطني بأبعاده الدينية والثقافية والعلمية (انظر مقالنا تحت عنوان تأملات في التسوية: لو كنت مفضلا أحدا لفضلت النساء -الموقع الاخباري “قضاء نيوز” – 2 فيفري 2018 ).
ومن الواضح أن مسألة بمثل هذه الخطورة لا يمكن أن تحسم بخطاب ولجنة (أو حتى بضغوط خارجية!) لأسباب عميقة وشائكة منعت الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة من الإستجابة إلى لجنة من رجال القانون اقترحت عليه إقرار المساواة في الإرث خلال سنة 1981.
ويعلق الأستاذ احميدة النيفر (أحد أعضاء لجنة الحريات الفردية والمساواة المحدثة وأحد المنتسبين للتيار الإسلامي) على ذلك بالقول في أحد مقالاته الحديثة “قد تكون وراء رفض الرئيس آنذاك اعتبارات سياسية وطنية أو عربية لكن من المتعذر قبول دعوى «المساواة» لالتباسها فضلا عن فتحها أبوابا يعسر سدُّها.
فهل كان ليغيبَ عن الرئيس بورقيبة أن المطالبة بالمساواة فيها تجاهل للطبيعة المتكاملة لمنظومة المواريث في التشريع الإسلامي ولجملة الاعتبارات التي تنتظمها في توزيع منابات الورثة والتي لا صلة لها بتميّز الرجال على النساء؟ ثم كيف القبولُ بدعوى المساواة التي إن مَسَّتْ عنصرا من منظومة المواريث فإنها ستطيح بالبقية فارضة إقامة منظومة مغايرة تقرُّ «المساواة في الإرث» وتستتبع ضرورةَ المساواة في الإنفاق بين الرجل والمرأة” (انظر مقاله تحت عنوان الإرث وأسئلة الزمن المُتَوَقِّف – موقع ليدرز العربية – 22 سبتمبر2017).
وحتى نبقى في حدود المساواة في الإرث فلا شك أن أعضاء لجنة الحريات الفردية والمساواة قد لاحظوا (وكلام الأستاذ احميدة النيفر يؤكد ذلك!) أن أي اختراق “لمنظومة المواريث” التي يتبناها القانون التونسي -اتباعا للتشريع الإسلامي- من شأنه أن يغير بالضرورة من جوهرها وهو ما يدفع إلى التساؤل حول طبيعة (أو هوية) تلك المنظومة ومدى انسجامها!؟.
وبصفة أكثر تحديدا فإن الإتجاه إلى إقرار مبدإ المساواة في مقادير الإرث بين الذكر والأنثى (مع افتراض الإبقاء على بقية الأحكام الأخرى) سيؤدي لا فقط إلى تعديل الأنصبة الشرعية للوارثين بل إلى زعزعة أسس نظام الإرث والقواعد الأصلية التي ينبني عليها.
1. فمن جهة الأسس، تستند صفة الوارث عموما إلى القرابة والزوجية (أي أن يكون الشخص زوجا أو زوجة). وتهم القرابة الأصول والفروع والحواشي من مختلف جهاتهم (أشقاء أو لأم أو لأب).
ويتضح أن كون الشخص ذكرا أو أنثى، صغيرا أو كبيرا لا يمثل في حد ذاته موجبا للإرث أو الحرمان. غير أن قاعدة عامة تقتضي -عند وجود ذكور وإناث- أن يرث الذكور ضعف الإناث مع إمكانية التساوي خصوصا إذا كانوا من جهة النساء.
كما يميز نظام الإرث الإسلامي بين صنفين من الوارثين :
أولهما، الوارثون بالفرض ولهم نصيب مقدر في التركة كالأم والجدة والبنت وبنت الإبن والأخت الشقيقة وللأخت للأب والأخت للأم.
وثانيهما، الوارثون بالتعصيب وهم ثلاثة أنواع أبرزهم العاصب بنفسه الذي يرث جميع المال عند انفراده والبقية عن أصحاب الفروض إن وجدت والحرمان إن لم توجد.
وفي ضوء ذلك فإن إقرار قاعدة تتعارض كليا مع مبدإ التفاضل (بين الذكر والأنثى) بصيغة فحواها “إن المرأة والرجل متساويان في الإرث” من شأنه أن يدخل تغييرا جوهريا على بناء “نظام الإرث الإسلامي” والمساس من انسجامه وفتح الباب لتعويض “المواريث الشرعية” بغيرها من الأنظمة التي لا ترتبط بتاريخ البلاد أو أعرافها أو دينها أو ممارستها (راجع مقالنا تحت عنوان “مبادرة الرئيس أم “هدم” نظام الميراث؟ – موقع “قضاء نيوز” – 14اوت2017)
كما يمكن أن يترتب -بصفة أصلية- عن إلغاء قاعدة “للذكر مثل حظ الأنثيين” نتيجتان على الأقل :
• الأولى: تتعلق بتغيير قائمة الوارثين بالفرض وذلك بفقدان عدد من الورثة لصفتهم تلك كالبنت وبنت الإبن والجدة والأخت الشقيقة والأخت لأب والأخت لأم.
• الثانية: تتعلق بتغيير فروض بعض الوارثين كالأم والزوجة وذلك خلافا لنصوص صريحة لا تحتمل التأويل.
2. أما من جهة الأحكام الخاصة بالأنصبة الشرعية، فمن الواضح أن إقرار المساواة بين الذكر والأنثى يؤدي بصفة مباشرة إلى مخالفة نصوص دينية وردت بالقرآن الكريم والسنة النبوية وهو ما يتعارض مع خطاب رئيس الجمهورية المذكور الذي اعتبر”أن الإرث ليس مسألة دينية” في حين أن المادة الأساسية لنظام الإرث قد وردت بسورة النساء (الآيات من7 إلى 12 و176) ومن ضمنها قاعدة “للذكر مثل حظ الأنثيين”.
واعتبارا لذلك فإن المخالفات التي يمكن أن تترتب عن إقرار مبدإ المساواة في الإرث قد تتعلق بصفة أساسية بخمسة وضعيات تهم على الأقل 10 من الوارثين :
• الوضعية الأولى: تتعلق بالمساواة بين نصيب الزوجة والزوج عند وفاة أحدهما فإعطاء الزوجة النصف إن لم يكن للزوج ولد والربع إن كان له ولد يتعارض مع قوله تعالى: “…وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّكُمْ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ” (النساء/12).
• الوضعية الثانية: تتعلق بالمساواة بين ميراث الأب والأم عند وجودهما مع أحد الزوجين فإعطاء أحد الزوجين النصف والباقي بالتساوي بين الأبوين يتنافى مع قوله تعالى: “… فَإِن لَّمْ يَكُن لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ” (النساء/11). فضلا عن تعارضه مع الحلول المستقرة في المذهبين السني أو الشيعي.
• الوضعية الثالثة: تتعلق بالمساواة بين الأولاد (ذكورا وإناثا) وأولادهم كذلك وهو ما يناقض قوله تعالى: “يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ” (النساء/11).
• الوضعية الرابعة: تتعلق بالمساواة بين الإخوة والأخوات سواء كانوا أشقاء أو لأب وهو ما يتعارض مع قوله تعالى: “وَإِن كَانُواْ إِخْوَةً رِّجَالاً وَنِسَاء فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ” (النساء/176).
• الوضعية الخامسة: تتعلق بالمساواة بين الجد والجدة إذا وجد مع أحدهما أخ أو أخت من أي جهة (أشقاء أو لأب أو لأم) فإن إعطاء السدس للجد أو الجدة والباقي للإخوة والأخوات بالتساوي يخالف مطلقا الحلول التي أخذ بها الفقهاء السنة أو الشيعة.
وبناء على ما تبين من تلك الوضعيات وما اتضح من أسس تشريع الميراث فإن السعي -بوعي أو بدونه- إلى “هدم المواريث الشرعية” وزعزعة أركانها يعد مخاطرة كبيرة في دائرة يختلط فيها بشدة التاريخ والدين والمشاعر !

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock