مقالات

تركيا وتحرير عفْرين: حدود الأمن والجغرافيا

ليلى الهيشري
من عملية درع الفرات الى عفرين، يتجدد الحرص التركي على منازلة الخصوم ودرء الخطر في مفهوم استراتيجي يقوم على حدود الامن والجغرافيا. ليبقى خطر الجوار قائما مستترا بمطالب قومية كردية لا تلقى القبول لدى كل الاكراد بل، لدى ميليشيات كردية سورية تلقى الدعم الامريكي عتادا وعدة رغم وجود البلدين في حلف الناتو، وسط اجواء عدم الثقة بينهما. افشلت تركيا قيام دولة كردية في اقليم كردستان العراق، وهي الآن تواجه الخطر نفسه في سوريا باكثر عزم وتصميم عسكري على حسم الوقائع على الارض.
مقدمة
استهلت القوات التركية السنة الجديدة بالتحضير لعملية عسكرية شمال سوريا، اعتبرتها اجراء ضروريا يصب في مصلحة أمنها الحدودي الذي يعاني طيلة خمس سنوات من تهديدات نتيجة الوضع المضطرب. ولقد شكلت عملية غصن الزيتون الحل الانسب الذي اعتمدته أنقرة بعد فشل العديد من المحاولات السابقة في التوقي من التجاوزات الحاصلة في حدودها نتيجة غياب السيطرة النظامية على مناطق استراتيجية بالنسبة لانقرة، وسقوطها في يد بعض الفصائل المسلحة غير النظامية المنضوية تحت لواء القوات السورية الديمقراطية، والتي تجمع مختلف المرجعيات العرقية منها العربية والسريانية، وأهمها قوات حماية الشعب الكردية، التي تم تصنيفها حسب انقرة ضمن قائمة الجماعات الارهابية التي تهدد استقرار تركيا. بل سجلت احداث الاونة الاخيرة سيطرة وحدات حماية الشعب الكردي على اغلب المناطق الحدودية المشتركة، مما اجبر انقرة على اتخاذ قرار بالتدخل الميداني بموجب عملية اطلق عليها غصن الزيتون أو ما يعرف لدى الاعلام التركي بعملية سيف الفرات، والتي انطلقت نهاية شهر جانفي 2018 مستهدفة المدينة الاكثر استقطابا لقادة المليشيات المسلحة الكردية، عفرين الحدودية، لتشكل بداية مرحلة من التصادم المباشر بين تركيا وتحالفات كردية تنضوي تحت اكراد سوريا.
1. مواجهة المشروع الكردي
عرف الشأن الداخلي التركي ازمات متتالية نتيجة العلاقات المتوترة بين الحكومات التركية المتواترة والاقليات الكردية المتمردة والمطالبة بالانفصال عن السيادة التركية، والتي زادها حدة وصول حزب العدالة والتنمية الى سدة الحكم في 2004. وأمام عجز الحوار السياسي على تقديم الاضافة في ملف اكراد تركيا -حسب المتمردين- الذين خيروا التنسيق مع الاقليات الكردية المتواجدة في الدول المجاورة لاضعاف الموقف التركي إقليميا ودوليا تجاه قضية اكراد تركيا.
أ‌. درع الفرات تمهيد لغصن الزيتون
انتقل الصراع الدائر بين الحكومة التركية والاجنحة العسكرية لحزب العمال الكردستاني المحظور منذ 1984، الى الخارج التركي مستغلة الوضع الاقليمي المتأزم وغياب الامن في المناطق السورية الحدودية، حيث اتهمت تركيا وحدات حماية الشعب الكردية بدعمها لهذا الحزب المحظور بل ذهبت الى اعتباره احدى اجنحته العسكرية في سوريا، يعمل على تدمير تركيا عبر المناطق الحدودية بمساعدة داخلية من اكراد تركيا. كانت خطورة التهديد الامني للحدود التركية، سببا مباشرا في التسريع بعملية ميدانية أولى في الاراضي السورية، وكان ذلك سنة 2016، عبر عملية درع الفرات، حيث شارك فيها جزء من القوات الخاصة التركية ولواءات عسكرية ترابية بتنسيق ميداني مع مليشيات الجيش السوري الحر، مرفقة بغطاء جوي حلف أطلسي، في سبيل التصدي لعدو مشترك كان على قائمة الاولويات في تلك الفترة وهو تنظيم الدولة الإسلامية، لتكون وحدات حماية الشعب نقطة الاستهداف الموالية في هذه العملية باعتبارها جماعة ارهابية تهدد الامن التركي دون غيره، وكان خيار الحوار متاحا في تلك الفترة بفضل الوساطة الامريكية التي اسند اليها مهمة الضغط على وحدات حماية الشعب للتراجع الى منطقة شرق الفرات تجنبا لصدام حدودي مع انقرة. وانتهت عملية درع الفرات بتاريخ 29 مارس 2017، باعلانها هزيمة تنظيم داعش في المناطق المحررة شمال سوريا ومشاركتها الفعالة في عملية خفض التوتر في المناطق الحدودية، دون ان تتمكن من تحييد خطر تلك الجماعات الكردية المسلحة. واثناء اكتفاء تركيا بمراقبة الوضع الحدودي دون تدخل لمدة اشهر بعد انتهاء العملية الاولى، عمدت مايسمى الإدارة الذاتية الكردية في عفرين الى اجراء انتخابات محلية في العديد من المناطق الكردية الراجعة لها بالنظر بتاريخ اوت 2017 وذلك تزامنا مع تاريخ الاعلان عن الاستحقاق الانتخابي المحلي في اقليم كردستان العراق. ونظرا لسرعة التحرك الكردي في الحزام الحدودي الشمالي بين غرب وشرق الفرات، ارتأت انقرة ضرورة الحسم في ذلك الصراع، عبر اطلاقها لعملية ميدانية جديدة عرفت بغصن الزيتون وسميت من الصحافة التركية بسيف الفرات.
ب‌. التصدي لمشروع دولة كردية في سوريا
صرح رئيس الوزراء التركي بن علي يلدريم لوسائل الاعلام بأن “بلاده لن تسمح أبدا بتشكيل ما سماه كيانا ارهابيا سواء شرقي او غربي نهر الفرات”. بهذا القرار حسمت الحكومة التركية أمرها عبر اعلانها بدء عملية عسكرية ميدانية في عمق الارض السورية متخذة مدينة عفرين ومنبج أهدافا مباشرة. ويعود هذا الاختيار الى ما يمثله الوضع في تلك المناطق الكردية التي تشهد مؤخرا تحركات مريبة ونسق سريع لتوطين منهجي للاجئين فروا من مناطق سورية مختلفة، حيث بلغ عدد السكان الاكراد في منطقة عفرين الحدودية اكثر من مليون ساكن، فضلا عن استقطابها لاهم القادة الاكراد في الميليشيات المسلحة المسيطرة على المناطق المحررة من داعش. هذا وتعد عفرين النقطة الاستراتيجية الثانية التي تشهد كثافة سكانية وعسكرية كردية بعد منبج، المنطقة المشمولة بالدعم والحماية الامريكية. وتعود هذه التطورات السريعة التي شهدتها منطقة عفرين الى الشروع في تسريع نسق المخطط الكردي بانشاء حكم ذاتي على غرار كردستان العراق تحت رعاية أمريكية، حيث تعمل في هذه المرحلة على انشاء روابط ميدانية بين النقاط الكردية في شمال سوريا سعيا وتحييدها، ولقد اكد احد القادة الاكراد اهمية المنطقة باعتبارها ”إحدى المقاطعات الكبرى للاكراد في سوريا، والمحافظة عليها والدفاع عنها تعتبر مسألة وجودية لن نتخلى عنها بسهولة. وباحكام وحدات حماية الشعب الخناق على مدينة تحتاجها انقرة في خطتها الامنية الحدودية والتي شرعت في تنفيذهها منذ 2016، وهو خيار استراتيجي مرحلي يقتضي ضم عفرين الى خط الربط الترابي بين المناطق الحدودية التي حررتها عملية درع الفرات ومنها جرابلس واعزاز وصولا الى ادلب، التي قامت بتسليمها الى عشائر ومقاتلين موالين للقوات التركية.
2. التهديد الأمني في سوريا
انخرطت تركيا في خطة اقليمية ترفض تقسيم سوريا. واعلنت الصحف العالمية قيام روسيا بدور الوسيط بين النظام الأ سدي والقوات السورية الديمقراطية، حيث عرضت على هذه القوات تسليم الاراضي المحررة من داعش، كريف دير الزور الشرقي ومنطقة كوباني وغيرها من المناطق الشمالية الشرقية لسوريا، الى قوات الجيش النظامي في محاولة لتجنب المصادمات مع تركيا. وامام رفض وحدات حماية الشعب الكردية الخروج من منبج وعفرين، لم يبق لتركيا سوى التدخل العسكري والتي قد تتطور الى صدام تركي مع ثورة كردية في المنطقة حسب الباحث غاريث ستانسفيلد، في تقرير نشره في جريدة الغارديان بتاريخ 29 جانفي 2018. وامام هذه المعطيات الحديثة، تشهد السياسة الخارجية التركية تحولا نوعيا في التعاطي مع الملف السوري حيث شكلت الاوضاع الحدودية دورا مفصليا في تحديد دور أنقرة في مستقبل سوريا والأسد.
يتزامن مع قيام الدول الحليفة لنظام بشار باستقطاب اكبر عدد من الحلفاء الداعمين لوحدة الاراضي السورية ومنهم تركيا، تحت اشراف روسي-ايراني، بينما تدفع بعض الدول الغربية الاخرى وعلى راسها الولايات المتحدة الامريكية والمانيا وفرنسا، اكراد سوريا للحصول على حكم ذاتي في إطار نظام فدرالي يسمح بتقسيم الاراضي والسيادة السورية. ولقد اسفرت المبادرات الأممية الحوارية بدءا من مؤتمرات الاستانة الست ووصولا لمؤتمر سوشي الروسي المنعقد في 29 و 30 جانفي 2018 الى محاولة جمع الاطراف المتناحرة على طاولة الحوار، ورغم صعوبة التقارب، استطاعت بعض الدول كروسيا وتركيا وايران تطبيق محتوى البيان الختامي للجولة السادسة لمؤتمر الاستانة بارسال قوات تعمل على مراقبة عملية وقف اطلاق النار في مختلف المناطق المضطربة في سوريا وعددها 4 وهي محافظة ادلب، حمص، الغوطة وجنوب سوريا. هذا وقد تم الكشف على وجود صفقة سرية تقضي انسحاب القوات الروسية من عفرين لترك المجال مفتوحا امام القوات الخاصة التركية لضرب مواقع وحدات “حماية الشعب الكردي” مقابل الضغط على المعارضة الموالية للقوات التركية ودفعها للتخلي عن ادلب لفائدة القوات النظامية والروسية، وهو ما يفسر عدم اعتراض نظام الاسد على عملية غصن الزيتون. وتتزامن الاحداث السابقة مع انضمام العراق الى مصف دعاة وحدة الارض السورية، حيث تم التنسيق بين القوات العسكرية العراقية وقوات نظام بشار الاسد التي سمحت لبغداد بتنفيذ عمليات ميدانية في عمق الارض السورية لمطاردة مقاتلي تنظيم داعش، على ان تتعهد باعادة هذه المناطق المحررة الى وحدات النظام الأسدي تحت اشراف إيراني.
عفرين ومنبج والأزمة التركية-الامريكية
اعلن اردوغان قبيل انطلاق عملية غصن الزيتون عن وجود 14 قاعدة عسكرية امريكية في الارض السورية، وذلك في رد على النفي المتواصل للبيت الابيض لهذه الوقائع الميدانية والتي تقوم على تدريب وتأطير وتدعيم وتقديم الامدادات الضرورية للفصائل الكردية المسلحة في سوريا. وامام غموض الموقف الامريكي من التهديدات الكردية لانقرة، اعتبرت تركيا انها في أزمة ثقة مع الولايات المتحدة الامريكية، جعلت من تضارب مواقفها سببا هاما في اتخاذها قرارا بالتصعيد الميداني في عفرين. وحتى لا تقع في الفخ الكردي-الامريكي، خيرت المواجهة المباشرة مع العدو، وذلك بقطع الطريق على المخططات الكردية إذ لم يعد لها سوى خيار المواجهة المباشرة مع عدوها متجاهلة كم الاتهامات الموجهة اليها من فرنسا والمانيا حول انتهاكها لحقوق المدنيين والحاق الضرر بالمرافق العمومية والمستشفيات في عفرين، ولا تعدو ان تكون سوى تعلات واهية لاثنائها عن اهدافها، لتكشف عن حقيقة الموقف الغربي من القضية الكردية الذي يحاول ارضاء هذه الاقليات في المنطقة بتكرار النموذج العراقي في سوريا.
ولقد اعتبرت صحيفة 24 الاماراتية، في مقالة نشرتها الاثنين 29 جانفي 2017، ان لتركيا موقف عدائي ضد الولايات المتحدة، اذ وضح بعض المحللين السياسيين الامريكيين، اسباب تأزم العلاقة بين حكومة العدالة والتنمية والبيت الابيض، التي جاءت نتيجة رفض العم سام تسليم فتح الله غول المقيم في بنسلفانيا الامريكية. وازدادت الازمة عمقا مع دعم الولايات المتحدة الامريكية للاكراد سوريا التي تعتبرهم انقرة جماعات ارهابية تهدد امنها. فقد صرح وزير الخارجية التركي مولود تشاويش اوغلو لجريدة حريت التركية يوم 25 جانفي 2018، انه ”لن يكون من الصواب ان تناقش تركيا مع الولايات المتحدة إقامة منطقة آمنة في سوريا قبل ان تحل مسائل الثقة بين البلدين في حلف شمال الاطلسي”. هكذا جاء الرد التركي على مقترح امريكي بفرض منطقة حدودية آمنة على الحدود التركية السورية لتضمن خروجها من مأزق التحالف الذي قد يسبب لها خسارة للطرف التركي، الحليف التقليدي القوي في المنطقة وعضو حلف شمال الاطلسي، فضلا عن خوفها من ردة فعل الاكراد الذين طالما شكلوا ورقة رابحة في يد الولايات المتحدة الامريكية والعنصر الميداني الاكثر نجاعة وتفانيا في حماية مصالحها.
خاتمة
انطلقت الحملة الانتخابية لاردوغان مبكرا من خلال عملية عفرين، حيث شكل غصن الزيتون وسيلة دعائية تخدم عملية الحشد الشعبي ضد اعداء تركيا والذي يسعى حزب العدالة والتنمية الى الحصول عليه لاستكمال مشروعه في تركيا بعد عقود من العلمانية المتشددة. وكان التدخل في العمق السوري ضرورة أمنية في هذه المرحلة الحرجة التي تعيشها الحدود التركية والتي تنعكس سلبا على الوضع السياسي الداخلي للدولة. ورغم كل العقبات والتهديدات التي طالت الاراضي الحدودية التركية منذ انطلاق الثورة، لم يتغير موقف انقرة من نظام بشار الاسد. اذ اعتبر اردوغان ان رحيله هو امر حتمي، ولكنه ليس بالاولوية التي تمثلها وحدة الارض السورية المهددة من قبل الاقليات والقوى الخارجية من ايرانيين وروس وامريكيين، ممن يصورون انفسهم للعالم ابطالا وحماة للشعب السوري. وإذ يعتبر التقارب من المحور الداعم لنظام بشار مجرد ضرورة اقتضتها الدواعي الامنية التي تشكل اولوية لا يمكن مقايضتها بأية مطامع قد تغري حكومة اردوغان في الساحة السورية، ليبقى خطر التواجد الحدودي لاكراد سوريا هدفا مباشرا لا ترى انقرة من حلول بديلة سوى عملية واسعة يتم بموجبها تدمير المشروع الكردي المزمع تشييده في مخطط غربي لزرع اسرائيل جديدة في المنطقة.

مركز الدراسات الاستراتيجية والديبلوماسية.

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock