تدوينات تونسية

حكام الإمارات.. لماذا يكرهون الربيع ؟

نور الدين الغيلوفي
فرضيات البدء:
لقد باتت دولة الإمارات الخليجيّة هي النسخة العربيّة المفعّلة للدولة العبرية التي زرعها الغرب الاستعماريّ في قلب البلاد العربيّة! وقد انتهى نجاح المنظومة الاستعماريّة، في اختراقنا، إلى استعمال دول بكاملها داخل المجال العربي لترسيخ مشروعها التاريخيّ المتمثّل في زرع أكثر من دولة وظيفيّة تسخّرها لتحقيق مآربها الاقتصادية وبلوغ غاياتها السياسية في نسخة جديدة للاستعمار!
لعلّ الاستدلال على تينك الفرضيتين محكوم بالإجابة عن سؤال مباشر بات ملحّا علينا في هذه اللحظة التي تشهد فيها البلاد العربية فوران شعوبها من أجل صناعة ربيع لها يخلّصها من الاستبداد الذي يكبت حرياتها ويحول دون كرامتها.. وذلك السؤال هو:
لماذا تعمل دولة الإمارات العربيّة المتّحدة، بهذه الطريقة الفجّة، على إفشال ثورات الربيع العربي والحيلولة دون تحرّر الشعوب وتصرّ على قطع طريق حلمها بالكرامة؟
فعل الإمارات بالثورات:
المتابع لمجريات الأحداث في مختلف البلدان العربية، منذ قيام الثورة التونسية في شهر دسيمبر 2010، يلحظ أنّ بعض الدول العربية لا تدّخر جهدا في التدخّل بكل الطرق من أجل وضع حدّ لاحتفال الربيع وتبذل وسعها من أجل قطع الطريق على الشعوب والحيلولة دون ما ظلّت تطلبه من انعتاق منذ أمد بعيد.. وقد نجحت تلك الدول في:
إفساد الربيع السوري وتلويث ثورة شعب أعزل قرّر أن يطالب بحريته..
حرف الثورة اليمنية عن مسارها حتى انتهت إلى حرب طائفيّة واستحالت إلى كابوس يهدّد اليمن السعيد بمجاعة ويجعل منه بؤرة لأوبئة توشك أن تسحقه..
زرع أشواك، في أنحاء ليبيا، بذريعة محاربة الإرهاب أفسدت بها على الشعب الليبي فرحته بالخلاص من حقبة الاستبداد..
سحق الثورة المصرية اعتمادا على آلة عسكرية عمياء حوّلت الميادين، بمجنزراتها، إلى موائد للشواء الآدمي…
صحيح أنّ ثورات الربيع العربي لقيت معارضة شرسة من أولئك الذين تضرّرت مصالحهم وباتت امتيازاتهم مهدَّدة.. لكنّ أعداء الثورات في الداخل ما كانوا قادرين على مقاومتها والوقوف في وجهها لولا ما لقوه من دعم خارجيّ منقطع النظير.. ولقد انتهزت بعض الحكومات العربيّة، المتوجّسة من أن تصيبها العدوى، الفرصةَ لتشنّ هجوما استباقيا على الثورات مستعملة قواعد لها من النخب المتضرّرة وحتّى من أولئك الذين هلّلوا للثورات أوّلَ نشأتها.
الإسلام السياسيّ مجرّد ذريعة:
يزعم حكّام الإمارات أنّهم لا يستهدفون بعداوتهم غير الإسلام السياسيّ، في استمالة مفضوحة للتيارات السياسية الأخرى التي ليس لها من “فضيلة” غير افتقارها إلى السند الشعبي الذي تخافه الأنظمة مستبدّة.. وليس الإسلام السياسي سوى تعبيرة من تعبيرات الشعوب العربية في التحرر والكرامة والعدالة الاجتماعية.. ولو أن أيّ تيّار سياسيّ آخر كانت لديه القدرة على الحشد الجماهيريّ ليتصدّر المشهد، في زمن الثورات هذا، لما تردّدت دول الريع النفطي في التصدّي له ومحاربته وقطع الطريق عليه.. وإذن فهذا الإسلام السياسي الذي تعلن تلك الدول عداءها له إن هو إلّا عنوان لزمن الثورات والمعبّر عن أشواقها لا غير…
لسنا، هنا، في وارد قراءة الإسلام السياسي من باب التمجيد أو من باب الاستنقاص، ولكنّنا نريد أن نفهم ظاهرة باتت لافتة اسمها دولة الإمارات العربية المتحدة ونفسّر سلوكًا لها بات علامة عليها، دولة كلّما انتفض شعب ضدّ حكّامه سارعت هي إلى التصدّي لانتفاضته..
الدولة العبرية خلف الواجهة:
نعلم أن دول الغرب الاستعماريّ قد فوجئت بالزلزال السياسيّ الذي اجتاح المنطقة العربية، ولكنّ أشدّ الدول تضرّرا من ذلك إنما هي دولة الكيان الصهيونيّ التي نجحت في صنع معادلة فرضت بها أمنها وصارت بمقتضاها رقما صعبا في المنطقة رغم رفض الشعوب العربية لها.. وبقومة الشعوب انتبهت دولة الاحتلال الصهيوني إلى الخطر الذي بات محدقا بها، لذلك أعملت أسلحتها الخفية واستعملت حدائقها الخلفية في فرصة أخيرة للحيلولة دون الخطر المحدق بها…
ولست أفهم نشاط الآلة الإماراتية لصدّ الثورات والوقوف في وجه الشعوب وقطع الطريق عليها إلّا لكونها كيانا نجحت دولة الاحتلال الصهيوني في اختراقه وصار بوسعها استعماله مخلبَ قطّ تزيح به ما بات يهدّدها من زحف شعوب رفعت فيما رفعت من شعاراتها (الشعب يريد تحرير فلسطين).. ثم إن الدولة العبرية تريد أن تبقى هي “الشجرة الديمقراطية” الوحيدة في غابة الاستبداد العربيّ، وبتسويقها لهذه الصورة تستفيد هي وتستفيد من ورائها أنظمة لن تفكّر في تحرير فلسطين ما بقيت محتلّة لشعوبها.. يعرف الصهاينة أن الحرية هي السلاح الوحيد الذي إذا ظفرت به الشعوب العربية المحيطة فلن يدوم بعد ذلك لها وجود، ويدركون أنّ انتشار الديمقراطية في المنطقة سيعجّل بفنائهم بطريقة أو بأخرى.. لذلك فإنّ من مصلحتهم دعم الأنظمة ضدّ شعوبها..
إن الدولة العبرية التي تنعم بحسن جوار الأنظمة العربية القائمة لن تكون في مأمن من الشعوب إن هي تحرّرت من الاستبداد، لذلك فإنّ مصلحتها تتقاطع مع مصالح الحكّام المستبدّين…
ومن أشدّ الدول العربية عداوة للثورات العربية، من خارج مجالها، دولة الإمارات العربية المتّحدة التي نجحت بفضل ما تضخّه من أموالها، في تسخير البعض ضدّ البعض الآخر في دول الربيع.. وبدل أن تكون الحرية سبيلا إلى التنمية استحالت، بفعل أموال الإمارات، إلى احتراب أهليّ في أكثر من قطر عربيّ، فغدت الحرية كما لو أنها وبالٌ على شعوب كانت آمنة مطمئنّة يأتيها رزقها مثلما يشتهي حكّامُها…
وفي الوقت الذي كان فيه الحكّام العرب، بمختلف أصنافهم، منشغلين بترسيخ أنظمتهم السياسية وتثبيت عروشهم وتوريثها لأبنائهم متاجرين لأجل ذلك بأكثر الأمور قداسة، كانت دولة الاحتلال الصهيوني تسابق الزمن من أجل صناعة درع لها تتّقي به صولة الشعوب العربية إذا قامت وتقطع الطريق عليها، وقد علمت أن الأنظمة القائمة بعناوينها المختلفة ليست معنية بتحرير فلسطين وإن هي رفعت ألوية الممانعة وزعمت الثورية.. ولأجل ذلك فقد عملت دولة الاحتلال على بناء هندسة خارقة لاختراق الأمّة.. ولم تقنع باتّخاذ الأشخاص والمنظّمات عملاء لها بل اخترقت دولا بأسرها جعلتها في خدمة أجندتها التي تستهدف السيطرة على مقدّرات الأمّة وضرب ما بقي من مناعتها.. وما الأصوات التي نراها ترتفع منادية بالتطبيع، وقد خرجت من السرّ إلى العلن في غير قطر عربيّ، سوى تعبيرات عن جهود سابقة للدولة العبرية التي يبدو أنها تحصد، الآن، ما ظلّت تزرعه منذ زمن بعيد كان فيه الحكّام العرب منشغلين بسحق شعوبهم وانتهاك الإنسان في دولهم والعبث بمقدّرات أوطانهم.. ولمّا كان الحكّام العرب بمختلف أنواعهم قد أفسدوا كلّ شيء فقد أنتجوا نُخَبًا ثقافيّة وسياسيّة معتلَّة فاقدة للمناعة صارت ترى التطبيع مع الكيان الصهيوني المحتلّ مفخَرة بعد أن ظلّ أمرا معيبا لزمن طويل…
ولمّا كانت دولة الاحتلال لا تتدخّل مباشرة في البلاد العربية ولا تجرؤ على أن تحضر بغير قناع فقد استعملت لها مخالب تنهش بها شعوبا تطلب التعافي من حقبة الاستبداد وتحبط محاولاتها في التحرّر والانعتاق.. ولا ريب في أنّ دولة الإمارات قد باتت هي الراعي الرسميّ الأوّل للانقلاب على الثورات العربيّة ولم يعد ذلك الأمر يخفى على أحد.
لماذا تصرّ دولة الإمارات على مصادرة إرادات الشعوب؟
تذكر التقارير أنّ اقتصاد دولة الإمارات يحتل المرتبة 22 على مستوى العالم، وهي ثاني أكبر دولة في القوة الشرائية للفرد الواحد.. ولكن عن أيّ فرد تتحدّث تلك التقارير؟ لا شكّ أنها إنّما تعني المواطنين الإماراتيين الذين لا تتجاوز نسبتهم 16% من إجماليّ السكّان، أمّا البقية فليسوا بمعنيين لأنّهم لا يُصنّفون مواطنين وليس لهم ما للمواطنين من حقوق…
لقد جعلت الطفرة النفطية الوافدين أكثر عددا من أبناء الأرض.. ولكنّهم ظلّوا غير مواطنين.. بذلك صارت دولة الإمارات أشبه ما تكون بأنظمة الميز العنصري، على شاكلة نظام الأبارتهايد الذي حكم إفريقيا الجنوبية من 1948 إلى سنة 1994 أو نظام دولة الكيان الصهيوني الذي استولى على أرض فلسطين من سنة 1948.. وإلّا فكيف نفهم حكم أقلية لا تتجاوز 16% من السكّان لأغلبيّة قامت على كواهلها الدولة بأكملها؟
يعلم حكّام الإمارات ما آل إليه نظام الأبرتهايد في إفريقيا الجنوبية كما يعلمون استمرار الثورة الفلسطينية للإطاحة بنظام دولة الاحتلال الصهيوني العنصري.. ولا شكّ في أنّهم يتوجّسون من انتفاض الأغلبية على الأقلية في بلادهم، يوما، من أجل الحصول على المواطنة وما يستتبعها من حقوق.. وبمقتضى الديمقراطية سيزول حكم أبناء زائد شيئا فشيئا وتتلاشى الأقلية داخل الأكثرية في أوّل استحقاق انتخابي يجري داخل الدولة بعيدا عن وصاية العرش التقليدية.. وإن الخشية من قدوم ذلك اليوم هي السبب وراء وقوف دولة الإمارات في وجه ثورات الربيع العربي.. وهي ما يفسر تصديها العنيف للناشطين السياسيين والحقوقيين الإماراتيين بالاعتقال والنفي والتشريد بعد أن أمضى 130 مثقّفاً عريضة سنة 2011 رفعوها إلى رئيس الدولة الاتحادية، خليفة بن زايد آل نهيان، تطالب ببرلمان منتخَب بكامل أعضائه وبتطبيق الاقتراع العام، وبأن تعتمد الإمارات نظاماً ملكياً دستورياً يحترم حقوق الإنسان ومبادئ أساسية أخرى.. وفي نهاية عام 2012 وبداية 2013 شنّت السلطات حملة اعتقالات واسعة، كان ضحيتها 94 ناشطاً وناشطة معظمهم من جمعية الإصلاح، وُجّهت إليهم تهم التآمر على نظام الحكم.. وقد استبق قائد شرطة دبي آنذاك، ضاحي خلفان، حكم القضاء وحذر من “مؤامرة دولية” يقودها الإخوان المسلمون وإيران..
لقد كانت تلك مقدّمات لمسعى دولة الإمارات التخريبي في مختلف الدول العربية استبقا لما ينتظر عرش حكّامها من تهديد بات محتومًا وإن تأجّل..
فإن يَكُ صَدْرُ هذا اليوم وَلىّ … فإنَّ غَداً لناظرهِ قَريبُ.

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock