تدوينات تونسية

على من يعود ؟؟

سامي براهم
اختار المؤسّسون بعد الثّورة استدعاء نفس الفصل الأوّل من دستور دولة الاستقلال الذي كان صيغة توفيقيّة لحسم الخلاف بين جناحي الحركة الوطنيّة “الزيتونيين والتحديثيين” واستدعيت نفس الصّيغة في دستور ما بعد الثّورة لنفس الغرض وبنفس القصد، وكذلك للعجز عن إبداع صيغة أخرى أكثر وضوحا ودقّة وأقلّ غموضا وإثارة للجدل.
سيبقى ضمير “دينها” محلّ خلاف وتأويل لصحّة احتمال أن يعود على تونس أو الدّولة باعتبار موضع الوقف في الجملة:
التّأويل الأوّل : تونس مبتدأ، كلّ ما يليها خبر مركّب عطفي، أي تونس دولة، تونس العربيّة لغتها، تونس الإسلام دينها.
التّأويل الثّاني : تونس مبتدأ، خبرها مركّب نعتي “دولة الإسلام دينها” وكذا مع العربيّة لغتها.
ممّا يقتضي في القراءة الأولى أن تكون عبارة “الإسلام دينها” إخبارا عن تونس.
أمّا في القراءة الثّانية فالعبارة صفة للدّولة التي وردت في صيغة خبر لتونس.
وكلى التّأويلين تحتمله اللغة وإن اختلفت مقاصد المؤسّسين الثّاوية في ضمائرهم ومعتقداتهم وقناعاتهم.
لذلك بقي هذا الفصل محلّ تجاذب وتنازع بين التيّار الإسلامي والتيّار العلماني أو بين تيّار الهويّة وتيّار الحداثة عموما، ويمكن اعتبار المحافظة عليه تمسّكا بالصيغة التّوافقيّة الدنيا لاشتماله على التّأويلين معا حيث يمنّى كلّ طرف نفسه أن يحسم التّأويل لصالحه في الواقع السياسي العملي من خلال موازين القوى.
ولكن الحقيقة أنّ ذلك دونه خرط القتاد، وما لم تحسمه التعاقدات والوعي الجمعي لن يحسمه الاستقواء بالدّولة أو الاغلبيّات الانتخابيّة أو ضغط الشّارع.
الحلّ معرفيّ منهجيّ يتمّ من خلال الدّمج بين الفصلين الأوّل والثّاني واستنباط صيغة تجمع بين المفهومي والإجرائي يجعلها قابلة لأن يُحتَكَم إليها في استنباط القوانين والنّظر في دستوريّتها.
بداية لا بدّ من التّأكيد على أنّ الدّولة شخصيّة معنويّة ليس لها هويّة في ذاتها بل تتلبّس بلون مؤسّسيها والقوى التي شكّلتها أو الطبقات التي تسندها والقوانين التي تنظّمها والقيم التي رافقتها عند تشكّلها وعلى امتداد السياقات المختلفة التي مرّت بها.
وليس بعيدا عن ذلك عبارة تونس التي لا تحمل هويّة جوهرانيّة مسبقة جاهزة ثابتة ابتداءً بل تحيل على هويّة مكوّناتها “البشر التاريخ الثقافة الدّين المرجعيات المعرفية العادات التقاليد الأعراف اللغة الضّمير الجمعي التطلعات الوقائع برامج التربية والتعليم…”.
لذلك لا معنى في تقديرنا التمسّك بتأويل أنّ الإسلام دين الدّولة لضمان عدم انقلاب الدّولة على هويّة الشّعب، أو التمسّك بتأويل أنّ الإسلام دين تونس لحماية الدّولة من تغوّل الهويّة، طالما أنّ هويّة الشّعب حالّة في تونس وفي الدّولة بمقتضي أنّ الأطر والأشكال تعكس مضامينها التي تشحن بها.
ماذا تعني مدنيّة الدّولة في هذه الحالة ؟
المقصود بالمدنيّة في هذا السياق هو مدنيّة السياسة لا الدّولة في حدّ ذاتها باعتبارها مؤسّسة تتحدّد هويّتها بمقتضى السياسات والقوانين التي تنظّمها، أمّا المقصود بالسياسة المدنيّة فهو طابعها البشري الاجتهادي التعاقدي مهما كانت طبيعة مرجعيات الفاعلين السياسيين ووثوقيّة أيديولوجياتهم وثقتهم في صدقيّتها وقداستها.
المدنيّة هي انتفاء القداسة عن الفعل السياسي دون مصادرة حقّ الفاعلين السياسيين أن يكون لهم مقدّسات يصدرون عنها في معتقداتهم وقد تؤثّر على رؤيتهم للواقع.
السياسة المدنيّة هي فعل العقل وكسب البشر في التّاريخ الذي يقبل الحوار والنقد والنقض إذا اقتضى الأمر، أمّا من يصدر عن مرجعيّة من مكوناتها نصّ يعتقد أنّه مقدّس أو تامّ -ويستوي في ذلك من يعتقد في قداسة التنزيل الإلهي ومن يؤمن بالنظريّة العلميّة المطلقة التي تفسّر التّاريخ- فهو مطالب أن يعلّل تصوّراته لا بقداسة نصّه وإطلاقيّته بل بتحقيقه للمصلحة المرجوّة.
فقداسة النصّ في حدّ ذاتها لا تعطي للتصوٌر المنبثق عنها افضليّة ذاتيّة أو صدقيّة أصليّة أو حجيّة جوهريّة إلا في ضمير معتقديها، أمّا في معرض السياسة المدنيّة فقيمة التصوّرات والرّؤى لها منطق آخر في التعليل والحجاج والاحتجاج والحجيّة، من أهمّ ركائزه مدى تحقيق المصلحة ومدى التعبير عن الإرادة العامّة وهذا لا يتحقّق بمجرّد التواكل على الصّفة الاعتباريّة للمرجع دينيّا كان أو حداثيّا أو تكريس تأويل للفصل الأوّل للدٌستور في هذا الاتّجاه أو ذاك.
وحتّى لا يكون الكلام نظريا وارتباطا بسياقات الجدل المحتدم حول مقترحات اللجنة المكلّفة بجرد ما يتناقض مع مبدإ الحريات الفرديّة والمساواة، من الكسل الذّهني في تقديرنا أن يحتجّ كلّ طرف على الآخر بفصل من الدّستور أو بتأويل للفصل الأوّل لصالحه بينما لا يخاض الجدل المعرفي العلمي الدّقيق حول الأفكار نفسها ومدى وجاهتها عقلا وتحقيقها للمصلحة واقعا بقطع النّظر عن مرجعها الدّيني أو الفلسفي أو الحقوقي أو الأيديولوجي، مع حقّ طرف أن يناضل سياسةً من أجل الدّفاع عمّا في مرجعيته من قيم تدعم ما يراه محقّقا لتلك المصلحة.
من بين الأسئلة التي يجب أن تطرح ويجيب عنها لا فقط السياسيّون والقانونيّون وأهل المعرفة الدينيّة بل كذلك علماء التربية والاسرة والنّفس والاجتماع وغيرهم :
• ما هو الاثر المتوقّع لهذه المقترحات التي لم تتبلور بعد سلبا وإيجابا على مستوى الأسرة والمجتمع والأجيال القادمة ؟
• ما هي المصلحة المرجوّة من هذه المقترحات مقابل الوضع القائم ؟
• هل هناك دواع متأكّدة للإقدام على ذلك ؟
• هل تقوم هذه المقترحات على أساس من الاستدلال العلمي المنهجي المتين ؟
هو نقاش خارج دائرة المقدّس الديني أو العلماني، يتساوى فيه الجميع ويقفون على صعيد التفكير المدني الحرّ الذي ينشد بناء المدينة على أساس من التنافس على تحقيق المصلحة العامّة والشروط الوثيقة للعيش الكريم.

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock