تدوينات تونسية

تونس الثورة.. وما بعدها (ج3): في موت المناضل والواشي

نور الدين الختروشي
بين 20 و22 جوان سنة 2009 إلتقت تونس المعارضة في المؤتمر التأسيسي للمنظمة الدولية للمهجرين بجينيف، وبالتساوق مع اشغال المؤتمر كانت اهم الاحزاب والجمعيات الفاعلة في مربع المعارضة تحاول توحيد رؤيتها للمرحلة في غرفة سياسية موازية. 
بعد يومين من تداول الرأي اختلفنا في الكثير واتفقنا في القليل واذكر يومها مما اجمعنا عليه هو اننا معارضة احتجاجية غير قادرة ولا مؤهلة لتسيير “مجرد” مجلس بلدي ليس من نقص في الكفاءات ولكن لان امتحان ادارة الشأن العام لم نعرفه طيلة النصف قرن من احتكار حزب للاداره والحكم..
بعد سنة ونصف فقط ألقت الثورة بالدولة “كاملة” في حجر المعارضة..
كانت الثورة فجئية وقاسية جدا على تونس المناضله بحساب جاهزيتها التاريخية والسياسية والتقنية لتحمل مسؤولية ادارة الحكم.
فتاريخيا كانت المعارضة التونسية مزيجا من التيارات الايديولوجية اليسارية والقومية والاسلامية في غالبها مع مكون وسطي صغير من مدرسة حزب الدستور الحاكم ولكن حجم التناقضات المرجعية بين تلك الاطراف لم تمنعها في اواخر عهد المخلوع من السير خطوة في اتجاه البحث عن مشترك وطني جامع بدأ بتحبير ما عرف بوثائق 18 اكتوبر التي كان مطمحها التاريخي تجاوز سجن المرجعيات المتناقضة الى آفاق التسليم بثوابت اجتماعنا الوطني في موضوع الهوية والمعاصرة من جهة، وفي موضوع الديمقراطية والحريات الاساسية من جهة اخرى.
كانت الحوارية الطريفة والمتفائلة يومها تعبيرا عن تراكم الوعي لدى مكونات تونس المناضلة بأن تجسير العبور الى بتونس من زمن الاستبداد الى زمن الحرية يفترض ولادة كتلة تاريخية تجاوزت سؤال الهوية الوطنية وسؤال الديمقراطية كشرط ثقافي وتاريخي وسياسي لانجاز المطلوب منها يومها وهو تكسير النواة الصلبة لنظام القمع العاري.
بسرعه مجنونه أطاحت الثورة برأس النظام واختطفت يد الناريخ جبة المناضل / البطل وأهدته معطف الحاكم الانيق.
يومها غادر “المعنى النضالي النبيل” سماء السياسة في تونس ونزل سحاب السياسة الرمادي على رؤوسنا ثقيلا من دون غيث. يومها رقصنا فرحا في محفل انتزاع الخضراء من القدر وانتضامها في التاريخ، كان مطلوبا من “المناضل” ان يكتب الصفحة الاولى في “زمن السياسة” الوطني.. فمن صفر سياسة يوم 13 جانفي الى “الكل” سياسة يوم 15 جانفي 2011 وقع المناضل بأصابع مرتعشة وثيقة خروجه من المجال العام واعلنت تونس الجديدة حاجتها التاريخية لرجل المصلحة شاكرة لرجل المعنى جهده وجهاده وعطاءه وشجاعته.
كان المناضل طيلة خمسينية دولة الاستبداد يصارع ببطولة واصرار من اجل استكمال شرط الحرية في بناء الدولة الوطنية وواجه ببساله مخالب الدولة البوليسية في عهديها البورقيبي والنوفمبري واستحق بامتياز شهادة التاريخ ببطولته ودوره الوظيفي المباشر والمعنى الرمزي في انضاج لحظة سقوط الاستبداد.
كان المناضل يحتل فضاء المعنى متربعا على عرش الشجاعة في مواجهة الة بوليسية صماء تطحن كل من يصنفه التقرير الامني في “القائمة”، قائمة اتسعت منذ فجر الاستقلال وبقيت تتمدد الى اليوم الاخير في عمر الاستبداد..
تلك القائمة كانت دائما تبدأ بوشاية..
المناضل كان في مواجهة مفتوحة مع الواشي ولان بورقيبة اختار ان يحيد العسكر ويستخدم الامني ليحكم من دون معارضة فقد أسست دولة الاستقلال لثقافة الوشاية ولم يزد نظام المخلوع على ان عمّم بولسة الفضاء العام ليصبح التقرير الامني نافذته الوحيدة على الحياة العامة ونظر كهنوت معبد الطاغية للمواطن الرقيب على انه “المواطن الصالح” الذي يستحق ان يتنفس هواء الوطن.
ولادة المواطن الرقيب في زمن المخلوع كانت اعلانا على وعي الدولة الوطنية لوجودها من خلال الرقابة التي احصت على مواطنيها انفاسهم وتحول الواشي الى فاعل مركزي في المجال العام عدوه اللدود الذي يطارده في الداخل والخارج ليس سوى المناضل.
كان الواشي يعمل من خلال اجهزة رقابة جهنمية توسعت افقيا وعموديا لتأمم الحياة العامة وكان المناضل في مقابله يسعى ما استطاع الى تجنب عين الرقيب فقد كانت العين الحمراء قاتله..
يوم هروب المخلوع انتهت لعبة “القط والفأر” من دون اعلان رسمي عن نهاية اللعبة وبأعلان تاريخي عن موت معانيها.
الواشي ذهب شيعته السياسة الى مزبلة والمناضل رفعه التاريخ الى معارج البطولة..
المعركة لم يحسمها ذكاء ولا قدرة المناضل وانما حسمها مكر تاريخي جميل تلحف بلحاف الصدفة والقدر فلا قريب ولا بعيد في الداخل والخارج تكهن بنهاية المباراة بين الواشي والمناضل بتلك السرعة والحدية والحسم التي انتزعت وطنا من مخلب الواشي واهدته الى المواطن.
الثورة لم تسلم الوطن “للمناضل” بل “للمواطن” لتعلن عن نهاية معارك الشهادة على الموجود التي استأنسها المناضل بشجاعة الفرسان وصبر الانبياء وتدشين زمن تحسين شرط الموجود الاجتماعي والمادي الذي يستدعي رجل المناورة السياسية ليحكم وكفاءة الاداري ليسير..
ليس من السهل ولا من المستساغ لدى من تعود على ادارة معارك التاريخ برافعة الفتوة والصمود والتضحية، ان يتحمل قسوة الخروج من افاق التاريخ ومعانيه الكبرى الى دوائر السياسة وحدودها المغلقة.
يجب ان ننتبه ان الثورة انقذت المناضل من هزيمته السياسية فرغم حجم تضحياته لم يتمكن من الانتصار على الاستبداد وفشلت كل استراتجياته في حسم معركة الحرية. فالمناضل الذي هزمته السياسة ايام المطارحة مغ دولة القمع، انتصر تاريخيا او بالتدقيق اعترفت له الثورة بان الهزيمة السياسية او العسكرية في معارك المصير هي في جوهرها نصرا مبينا بعين التاريخ فكم من مهزوم بحساب السياسة ويومياتها والحروب وغبارها كرمه التاريخ على انه بالنهاية البطل من جان دارك الى تشي غيفارا مرورا بعمر المختار يتردد نفس المعنى يموت الجسد لينبجس المعنى ينهزم الجسد وتنتصر الروح. يحاكم وكان بطل التاريخ السياسي الحديث وكرمه الشعب يوم اعترافا له ببطولة الصمود…
ربما لم يستوعب المناضل يوم القطيعه مع زمن القيمة والرمز والدلالة لصالح زمن المصلحة والاشياء وادارة قسمتها. فورث ادارة أشياء الدولة ووعيه مشدود الى واجب التاريخ الذي اسدلت عليه الثورة الستار بسرعة واناقة مرحة.
كان يومها يغادر خنادق البطولة والشرعية ويدخل ساحة الادارة والمشروعية والنجاعة.
لم يعي المناضل / البطل تلك النقلة النوعية من معركة الخوارق والتاريخ الى معامع التدافع السياسي اليومي. ومازال محكوما بهاجس البطولة، ولما تربع على عرش الدولة ليكتب عقدها الجديد خرج من بابها الامامي بسرعة ونصف هزيمته في امتحان ادارة المصلحة تلاحقه بمُرِّ خجلٍ..
كان قاسيا على تونس المناضلة ان تدفع الى امتحان ادارة المصير العام في الوقت الذي كان أقاصي طموح نضالها ان تشارك في صنعه، وكم كان حجم المفارقة كبيرا اذا تذكرنا ان الثورة هي من هندست للمناضل افق التحول به من المقموع الى الحاكم ولم تلتفت الى جاهزيته التاريخية لينسجم مع زمن نسيان الشجاعة واستحضار النجاعة.
لم تمضي على تونس المناضلة حينا من الدهر طويلا لتسقط بعد سنتين او يزيد من عرش الدولة أسقطها الشعب بنعومة الصندوق.. اسقطتها الديمقراطية.. اسقطها حلمها المنجز يوم 14 جانفي 2011.
فيوم غاب الواشي مات موضوع النضال المتصل بسؤال الوجود التاريخي وولد موضوع السياسة المشدود الى سؤال ادارة الموجود الاجتماعي.
موت الواشي كما نهاية المناضل محرار ومؤشر موت زمن الاستبداد وولادة زمن الحداثة السياسية في تونس اليوم ويبدو ان الواشي اختار الموت الصامت في حين مازالت نهاية المناضل تجرجر صخبا عاما وتهارجا حول الطريق الذي سيسلكه موكب تشييعه الى الذاكرة. انتهى التاريخ لتبزع السياسة بمثل هذا علق هيغل على انتصار بونابرت الثورة الفرنسية في معركة ايينا على بروسيا القرون الوسطى..
تنتهي حروب المعنى وتبدأ معارك المصلحة وبين المعنى والمصلحة مسافة النقلة من زمن الشهادة على الحال الوطني الى زمن المسك والتحكم في المصير العام ولكل زمن فرسانه
جنازة الواشي كم كانت صامته من خجل.. اما المناضل فمازال ينتظر هيئة الحقيقة والكرامة لتؤشر على شهادة ملكيته لرياض في حديقة الذاكرة..
جريدة الرأي العام

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock