تدوينات تونسية

تونس الثورة وما بعدها (ج2): ما بعد التوافق.. توافق قادم

نور الدين الختروشي
بعد هروب المخلوع تسلم قرطاج رئيس مجلس النواب السيد فؤاد المبزع وحافظ الوزير الاول السيد محمد الغنوشي على منصبه استبدل بعد اعتصام الفصبة الاول بالسيد الباجي قايد السبسي والذي كان بدوره رئيسا لبرلمان المخلوع في بداية حكمه.
كان غريبا بل شاذا ان يسقط الشارع في ثورة شعبية فجئية وسريعة وحاسمة رأس الدولة والنظام وان يقبل دون “تردد” ان يعوضه رجال من نفس منظومته ليشرفوا على هندسة اللحظة الاكثر كثافة وضغطا ومصيرية في مسار الثورات عامة والثورة التونسية خاصة لحظة ما بعد سقوط النظام القديم.
نماذج او تيبولوجيا الثورات تفصح مروياتها على ان تلك اللحظة عادة ما تكون لحظة تصفية مباشرة وعنيفة لرموز العهد الما قبل ثوري واستبدال عيني ومباشر برموز جديدة من الطلائع الثورية المنتصره.
شذت تونس عن القاعدة منذ ساعة انتصارها الاولى فهل نجازف بالقول انها اختارت نصف الثورة ونصف الاصلاح وربما كل التوافق مع القديم لتأسيس جديدها التاريخي والسياسي .
من هندس سد الفراغ ولماذا وكيف تفاصيل الاكيد انها مهمة وأسالت حبرا كثيرا وتراوحت بين القول بالصدفة وعمق ثقافة الدولة لدى النخب التي ادارت ساعات ما بعد هروب المخلوع وبين التأكيد على دور “الايادي الخفية” وغرف التآمر الدولي في هندسة المشهد وتناثرت حقيقة تلك الساعات بين سطور متداخلة ومتشابكة لم تفصح الى اليوم عما يوضح حقيقة ما حصل بعيد مغادرة طائرة بن علي ثكنة العوينة. ما يستوقفنا عند هذه اللحظة ليست حقيقة ما وقع بل المفارقه المنبجسة من تلك الساعات المصيرية التي اعقبت هروب رأس النظام والدولة
فأن بتسلم رموز النظام القديم مهمة الاشراف على هندسة “ما بعد سقوط النظام القديم” هو في الظاهر والشكل استدعاء لمنطق التحول السياسي بمحموله الاصلاحي وقفز على المنطق الثوري وتجاوز له في لحظة فارقة من المفروض بحساب زخمها الثوري ان ترفض اي شكل من التسويه مع القديم.
الثورة التونسية شذت عن “المألوف” الثوري منذ لحظات انتصارها الاولى وتلحفت معطف التسوية مع القديم والتسليم له بهندسة أشهر ما بعد سقوط النظام اي ببساطة وضع ارضية وقواعد وافق وادارة الزمن السياسي الجديد.
من هنا بدأت قصة التوافق في تونس ما بعد الثورة، والتي مازلنا نقرأ سطورها بعيون مرمدة تعبت في فك شفرتها واحالتها في الغالب على زاوية الضرورة السياسية المباشرة هروبا من صداع البحث في مفارقة تاريخية بحجم السماء. نقدر ان تفكيك تحتياتها التاريخية والسوسيولوجية قد تعيد الاعتبار لخلاصة عالم الاجتماع النابه منصف وناس الذي كتب قبيل الثورة دراسة سوسيولوجية جوهرها التأكيد على التونسي بالطبع والسجية والجبلة الغالبة اصلاحيا ولا يمكن ان يغامر بثورة على اوضاعه مهما كان منسوب الازمة.
ولعل ما يعمق هذه الخلاصة هو مخرجات اللحظة الاكثر ثورية في يوميات الثورة التونسية لحظة اعتصام القصبة 2 والتي انتهت بالتسليم بنصف الحل فلم ترحل حكومة السبسي بل فوضت للاشراف على انتخابات المجلس النأسبسي.
فاعتصام القصبة 2 الشهير اطرد تشي جيفارة واحتفى ببورقيبة وانتهى عند باب “سياسة المراحل” والتدرج في انجاز المطلوب العام من وراء الثورة.
ما حرص عليه الفائز بالاغلبية في انتخابات العهدة التأسيسية من التوافق مع بقية مكونات المشهد السياسي اندرج ضمن مزاج سياسي عام تبين مع القصبة الاولى والثانية انه ليس مزاجا نخبويا ميالا الى التسوية والبحث عن المشنرك، بل مزاجا افقيا عاما يعبر عن عمق بسيكولوجي وثقافي وتاريخي اصيل تكثفه حاسة اصلاحية تونسية ربما راكمها وصهرها تاريخ طويل من المناورة على منطق الحروب الداخلية.
فكأن دروس التاريخ البعيد الموغل في قدم الحروب البونيقية وفتن تداول الحضارات والدول على افريقية، تحولت تونسيا الى ميكانيزم تفكير عام تنبجس بعفوية سلسة عند المنعطفات التاريخية الحادة، فتختار الوسط كمربع لامتصاص الابعاد الحدية والمتوحشة للصراع حول المصير العام.
انتهت الثورة يوم فك اعتصام القصبة وبدات السياسة تكتب يوميات مصير تونس الجديده، ونجحت في اول امتحان لها في تنظيم الانتخابات التأسبسية وتداخل القديم مع الجديد في انسجام عفوي لتسليم السلطة لمن اختاره الناخب ولم تشذ تونس عن محيطها العربي فقد حاءت الديمقراطية بالاسلامي ليحكم.
الاسلاميون بتونس عرفوا تاريخيا بسعيهم المستمر الى وضع قدم في وسط المجال السياسي الوطني، وكلما دفعتهم مفاعيل الايديولوجيا او الواقع الى الاطراف القصية او المظلمة فوق الارض او تحتها نطوا بسرعة الى السطح وحاولوا التموقع في الوسط مجال الاعتراف بالشريك والشبيه والمغاير والنقيض. ولعل من المفارقة ان نلاحظ ان رحى القمع طحنت الاسلاميين في تونس في بداية الثمانينات بعد ان اعلنوا عن وجودهم العلني ومطالبتهم بالعمل القانوني واستأصلتهم في بداية التسعينات بعد ان صدقوا مسرحية الانتخابات سنة 1989 التي شرعت لانقلاب السابع من نوفمبر وشاركوا فيها بهمة مبتهجة بممكن البناء الديمقراطي يومها.
في 1981 كما في 1991 عوقب الاسلامي التونسي في طريق بحثه عن موقع له في وسط الحيز السياسي، ولم “يعاقب” رسميا لتطرفه وجذريته السياسية بل لفائض اعتداله وبحثه عن الاعتراف به “كفاعل وسط” في مربع التنافس على السلطة.
بالنظر الى وسطية العقل السياسي للنهضويين كان من الطبيعي ان يبحث الغنوشي عن شركاء له لادارة الحكم ضمن فلسفة سياسية أصلها المؤتمر الخامس للنهضويين في المهجر والذي نصصت وثيقته المرجعية على تجنب الممارسة بالحجم الانتخابي والشعبي وضرورة البحث عن التوافقات بديلا عن الغلبة السياسية التي قد تستثير ما لا تتحمله تجارب الانفتاح السياسي والتحول الديمقراطي الهشة في المجال العربي.
يوم انتصار الاسلاميين في الانتخابات التأسيسية لم يسعد له العالم وقبله عن مضض، ولم تسعد له تونس السياسة والاحزاب وقطبت له الجبين، وكان رفض دعوة قيادة النهضة لتشكيل حكومة شراكة وطنية موسعة اول الرسائل المنبئة بما سيليها من استراتجيات منع النهضويين من الحكم بالنهاية والحاصل الملموس.
استراتيجيات الردة على الثورة اندمجت تونسيا مع ارادة اسقاط حزب النهضة وتداخلت خطوط التآمر على الثورة داخليا وخارجيا مع إرادة التصفية الرمزية والسياسية للاسلاميين الني تأصلت لدى قطاع كبير من النخب التونسية لاسباب متعددة ومتداخلة منها ما يتصل بالموقف الايديولوجي الحدي والصارم كما هو لدى قطاع أغلبي من اليسار التونسي، او لخوف على مكاسب النمط المجتمعي الحداثي الذي أسست له البورقيبية، او لرعب لدى النواتات الجهوية والزبونية الصلبة والتقليدية للسلطة في تونس من ان يعصف القادم الجديد بتوازناتها ومصالحها المتشابكة مع اجهزة الدولة.
فشلت النهضة في تشكيل حكومة وحدة وطنية تضم الاقصى من الاطراف الفاعلة في المشهد، كشف حجم الرفض الذي سيتحول الى عدائية مباشرة ومعلنة وسائلة عبر عنها الصحفي توفيق بن بريك بقوله الشهير حتى وان جعلت النهضة من تونس جنة سأحاربها الى اخر رمق.
انتهت العهده التأسيسية على تخوم منطقة التحارب الداخلي وانقذها في الدقيقة تسعين ما اصبح يعرف بلقاء باريس، الذي استعاد فيه الوعي السياسي جوهره وذاته الكامنة بين حدود المطلوب والممكن.
ليس مهما ان تتأول القراءات لقاء الشيخين من منظور الضرورة السياسية وموازين القوة ومعادلات الداخل والخارج، او من زاوية التحليل التاريخي والانتروبولوجي الذي يؤكد على البنية او القالب الذهني الاصلاحي للعقل السياسي التونسي. فتوسيع منطقة التفاعل بين العوامل المتصلة بالثقافة السياسية ومعادلات الواقع واكراهاته لا يمكن الا ان تكون منتجة في فهم حال ومآل التجربة التونسية. ولكن الاكيد ان من يستغرب من تجربة التوافق الثانية التي ضمت النهضة مع غريمها نداء تونس قد نسي او تناسى او جهل او تجاهل أصالة وتأصل الجوهر المدني والمديني للعقل السياسي التونسي الذي لم يثبت عليه في تاريخه السياسي الحديث نزوعا نحو التوحش والتحارب والاقتتال العام في فض النزاع حول السلطة. فالقمع الوحشي الذي تعرض له اليوسفيين في بداية تأسيس الدولة البورقيبية وحرب الاستئصال الشاملة ضد الاسلاميين لم تتحول بالمحصلة وبقطع النظر عن الاسباب المتراوحة بين فشل استراتجيات التغيير بالانقلاب لدى اليوسفيين او العنف المدني لدى النهضويين لم تتحول الى “حرب الكل ضد الكل” وتفجير عناصر الاجتماع السياسي الوطني. الطريف على هامش محصول العهدة التأسيسية ان جائزة نوبل للسلام وشحت صدر المجتمع المدني وتناست السياسي فالرباعي الذي اشرف على التسوية السياسية كان في الحقيقة في قلب تعميق القناعة التي تؤكد على ان رهان المصير العام تونسيا دونه حدا اخلاقيا صلبا هو بالنهاية سند السياسي في بحثه الشقي عن دفع حدود ممكنات التسوية الى اقصاها المقبول.
فالمعروف في التنظير الهيغلي ان المجتمع المدني هو بالاساس حيز اخلاقي او الامتداد القيمي لمجتمع الحكم بحكم وظيفته الرقابية التي امتدت في التنظير المابعد هيغلي الى التشاركية والتورط المباشر في العملية السياسية. وقد كان توشيح منظمات المحامين والاعراف والعمال والحقوقيين اعتراف كوني بأن الحالة التونسية وعلى عكس بقية دول الثورات العربية قد استكملت شرطها التاريخي لدخول زمن الحداثة السياسية والعقد المواطني، اذا سلمنا ان الحروب والمباراة بالدم هي الصيغة الماقبل المدنية لفض النزاع حول موضوع السلطة وان التحارب الاهلي هو في الاصل فشل اخلاقي في الاعتراف بالتعدد وفشل تاريخي في التعايش مع الاختلاف وفشل سياسي في ادارة تباين او تناقض المصالح.
لم يكن من المصلحة السياسية للترويكا ان تخرج منحنية من السلطة، ولم يكن من الانجاز السياسي لجبهة الانقاذ التي قادها السبسي ان تقبل بنصف الحل وخصمها في الزاوية الحادة، وكان من المصلحة الوطنية ان تتجنب تونس كلفة الغلبة لاحد الطرفين، وعند هذه النقطة نجح المجتمع المدني في دفع السياسي الى وعي اللحظة من منظور اخلاقي، وجوهره الضغط على الذات لفائدة الموضوع.
حاصل القول عندي ان التوافق الذي اصبح عنوان الحالة الثورية التونسية لم ينجزه لقاء باريس على ماله من قيمة رمزية وتاريخية وانما هو منتوج ثوري تونسي خالص عبرت عنه الساعات التالية لهروب المخلوع. وما مسار تطور المشهد الوطني سوى اعادة انتاج للبحث عن “التوافق الممكن” لادارة الاختلاف حول المشترك الوطني. توافق النداء والنهضة الذي يقود البلاد منذ ثلاثة سنوات سينتهي عاجلا او اجلا بفقدانه لمبرراته السياسية، وبديله سيكون توافقا جديدا ستفرزه خطوط التشابك والتقاطع بين داعية المصلحة العامة وضرورات التوازن السياسي، وضمن هذا الافق التحليلي قد تسقط كل رهانات العودة بنا الى زمن ما قبل الثورة.

تونس الثورة وما بعدها (ج1): في حيرة محنة السياسة

الرأي العام (التونسية)

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock