تدوينات تونسية

الكتّاب نوعــــان

عبد اللطيف علوي
هناك الكتّاب الأرستقراطيّون، أبناء الطّبقة المخمليّة، الّذين يكتبون بالشّوكة والسّكّين. الّذين لا يجوعون أبدا، لأنّهم لا يشبعون أبدا، ولا يأكلون إلاّ من باب الرّوتين اليوميّ، ومن أجل تدوير عجلة المعدة كي لا تصدأ. عندما يدخلون إلى بيوتهم الفارهة، يرتدون لباس الاستراحة القطنيّ أو الحريريّ، ويضعون على صدورهم مناديل واقية ويجلسون إلى الطّاولة المرتّبة بنظام وذوق أرستقراطيّ تتوارثه العائلة جيلا بعد جيل، مثلما تتوارث صور الأجداد الّتي توشّحها الفخامة والطّمأنينة والابتسامة المائلة قليلا بوقار… يمسك أحدهم الشّوكة باليسرى والسّكّين باليمنى، بطرف الأصابع تماما، ويشرع في الأكل بكلّ أناقة واتّزان، محاذرا أن تتّسخ ياقة قميصه أو تكون اللّقمة أكبر قليلا أو أصغر قليلا ممّا يجب، فقد يسبّب له ذلك فتقا في العضلات الجانبيّة لحنكيه الحسّاسين. يمضغ ببطء وعلى مهل شديد، ويتحدّث طويلا بين اللّقمة واللّقمة عن آخر الصّفقات والموضات وكسل الفقراء وجشعهم الّذي لا يطاق، وعن أنواع النّساء والسّيّارات والخيول والكلاب والقطط والفوارق الجوهريّة بينها. ومن حين لآخر يمدّ يده ويسحب بإصبعين فقط منديلا من ورق، يمسح طرفي شفتيه بمجرّد لمسة خفيفة تشبه القبلة تماما، وبمجرّد أن ينتهي من المحلّيات تأتي الخادمة الّتي كانت واقفة طول الوقت تنتظر في المطبخ قريبا منه، فتجمع ما بقي على الطّاولة، وهي تسرّ في نفسها أنّها ستضعه في كيس بمجرّد أن يغفل السّيّد ليكون وليمة لأبنائها الجائعين، في حين يسترخي هو على طرف الأريكة يداعب السّيجار الكوبيّ باشتهاء قبل أن يطلق عليه النّار من ولاّعته الصّفراء المذهّبة.
النّوع الثّاني هم الكتّاب المتشرّدون، الهامشيّون، الجياع دائما كما ولدتهم أمّهماتهم، المصابون منذ الأزل بالكوليرا واللّهفة والحرمان وضيق التّنفّس والرّهاب من المستقبل. الّذين يأكلون من أجل البقاء ويتكاثرون بسرعة كالذّباب ويملؤون الأرصفة والمقاهي والسّجون والمستشفيات ويتكدّسون على أطراف المدن كالمتلاشيات والأتربة وبقايا موادّ البناء والقضبان الصّدئة، يقعي أحدهم أو يجلس على ركبة ونصف، أو يكبّ على المائدة بشهوة ذئب قطبيّ جائع لم يذق طعاما منذ أيّام… يشمّر حتّى المرفقين ويغرس أظافره وأنيابه وعينيه في الطّعام المبعثر على المائدة المبقّعة، يعظّم اللّقمة ويغمسها في المرق الحارّ بأصابعه الخمسة ويلقيها بنهم كافر… يتسايل المرق على طرفي شاربيه حتّى الذّقن فلا يبالي ولا يمسحه، يترك اللّحمة حتّى آخر الطّعام كي يحتفظ بحلاوتها على لسانه لوقت أطول، فينهشها بشبق وبلا حياء ويعرق العظم حتّى تسمع له صفيرا، يلحسه ويقبّله من جميع أطرافه حتّى يصبح ناصعا أملس كقصبة النّاي ثمّ ينظر داخله بعين واحدة، وينقره على الطّاولة نقرات سريعة متتالية ليفرغه من المخّ، يلعقه كما يلعق قطّ مخدوع سكّينا علقت به رائحة اللّحم، يأكل بسرعة من به صرع ويمضغ بفكّين من الفولاذ، ويزدرد دون مضغ في أغلب الأحيان، لكنّه لا يغصّ أبدا، وإذا غصّ يسعفه الأخ الأكبر أو الأمّ بقبضة يده على ظهره حتّى تكاد تنخلع أضلاعه، ينتفخ بطنه فيرخي الحزام قليلا، ويعالج الصّحن من الوسط ومن الجانبين بقطعة الخبز حتّى يغسله تماما فلا يحتاج بعدها إلى ماء ولا إلى مطهّرات، وحين ينتهي من كلّ ذلك يتجشّأ بعمق ويحمدل، ثمّ يتذكّر أنّه نسي أن يبسمل قبل أن يبدأ، فيلعن الشّيطان الّذي عصى ربّه، ويتدارك الأمر ويبسمل ويحمدل من جديد مرّتين أو ثلاثا ثمّ يسقط مغشيّا عليه…
هذا هو الفرق بين من يكتب بالشّوكة والسّكّين، وبين من يكتب بالأظافر والأنياب.
وأنا من النّوع الثّاني…
في الكتابة، وفي الأكل، وفي الحبّ أيضا.
#عبد_اللطيف_علوي

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock