تدوينات تونسية

تبا لأمة هذه حالها

أبو يعرب المرزوقي
ابتعدت كثيرا عما يجري في تونس التزاما بما وعدت به من ضرورة تجنب موقف “الملكي أكثر من الملك”. فقد يعاب علي التعبير عن مواقف من سياسة الإسلاميين دون انتساب حزبي فضلا عن الالتزام. والمشروع الجامع بينهم وبيني لا يلزمني بما يلزمهم به. لست ملزما بـ”اكراهات السياسة” حتى السوي منها.
ما يدفعي اليوم للكلام في الوضع التونسي هو الطابع غير السوي لما يسمى “اكراهات السياسة” عند كلا الحزبين الاكبرين أعني النهضة والنداء بشقيه اللذين سيتحالفان وخاصة بعد انتخابات ألمانيا استعدادا للانتخابات المقبلة أو للحسم بـ7 نوفمبر ثانية يحرض عليها قادة الثورة المضادة وممولوها.
ولا أنفي أني كنت منذ أول انتخابات بعد الثورة أدعو للصلح بين فرعي الحزب الحر الدستوري أي الثعالبية والبورقيبية (انظر خطابي في اليوم الأول من افتتاح الحملة في سيدي بوزيد) لأن تونس لا تتحمل معركة شبيهة بصدام الحضارات بين تأصيل وتحديث كلاهما لا يراعي شروط البناء السياسي الديموقراطي.
وما حدث بعد أحداث 2013 غير مجرى الاحداث والمعركة السياسية. فالثورة المضادة افتكت المبادرة (مصر والسعودية والإمارات وإيران وإسرائيل) والثورة اقتصرت على رد الفعل بعد أن فرطت في فرصة الفعل لانعدام المشروع والتعاون بين بؤرها في المغرب (تونس وليبيا)والمشرق (مصر وسوريا واليمن).
وما كنت اعتبره علاجا استراتيجيا -الصلح بين بعدي حركة التحرير الوطنية شرطا في حركة التحرر الوطني- أصبح شبه مستحيل لأن ما يسمى النداء لم يعد دستوريا بورقيبيا وما يسمى النهضة لم يعد دستوريا ثعالبيا بل كلاهم صار مهووسا بالسياسي العاجل على السياسي الآجل: توافقهما مغشوش من الأصل.
فما يدفع السبسي لمهادنة النهضة داخلي خالص ويرد إلى عاملين: هو عمره وهشاشة حزبه وعلمه بفشل بورقيبة وابن علي في القضاء على الإسلاميين. وما يدفع الغنوشي لمهادنة النداء خارجي خالص ويرد إلى عاملين كذلك: الموقف العربي من الثورة والإسلام الديموقراطي والموقف الدولي من الإسلام عامة.
لكن القواعد لا تعمل انطلاقا من هذه الهواجس التي تحرك القائدين أو الشيخين: وإذا كان النداء قد تفتت فالعلة هي أنه ليس دستوريا بورقيبيا بل هو حزب السابع من نوفمبر المقلوب. كان اليسار والاتحاد أداة تابعة لحزب ابن علي ومافيته وأرادوا بعد الثورة قلب العلاقة حتى يصبحوا متبوعين.
لذلك فالمعركة قبل تكوين حزب النداء كانت بين اليسار والاتحاد العام التونسي للشغل وهو الذي حسمها بما يسمى التوافق بهدف إخراج الإسلاميين من اللعبة السياسية أو ابقاؤهم على هامش الحياة السياسية وهم لا يزالون كذلك كما يتبين من الابتزاز والتهديد المتواصل بالإقصاء من السبسي نفسه.
وقواعد النهضة مثلها مثل قواعد النداء ليست معنية بـ”اكراهات السياسة” التي يلتزم بها الشيخان. فهي لم تنس بعد ما حصل لها ولا تطمئن للنداء وهي تعلم جيد العلم أن النداء لا علاقة له بالثعالبية. إذا ما استثنينا قلة من الدساترة فيه فالبقية يسار متنكر في البورقيبية التي كانوا من أعدائها.
وفي الحقيقة فإن النداء أحوج للنهضة من النهضة للنداء. ذلك أن قلب العلاقة في بقايا حزب ابن علي (اليسار والاتحاد متبوعين بدلا من أن يبقيا تابعين) يهددان استراتيجية السبسي وابنه أكثر من النهضة التي يعلم أن له عليها حليف عربي وغربي قد يفضل عليه اليسار فيخرج من “المولد بلا حمص”.
لذلك لست أفهم خوف القيادات النهضوية وعدم فرض توافق ندي بين الحزبين: فما يهددهم به النداء لا يصدقه عاقل. فلنفرض انه قرر الحلف مع اليسار ضد النهضة. كلنا يعلم أن اليسار لن يترك له أدنى قسط من الحكم. فستكون الدولة والاتحاد بيده ولن يبقى للنداء أدنى دور وليس له أدنى قاعدة فعلية مؤثرة.
والغرب بعد فشل الثورة المضادة البين في سوريا ومصر واليمن وليبيا بدأ يدرك أن حكم الضفة الجنوبية من الأبيض المتوسط مستحيل من دون إسلام وسطي ديموقراطي بشرطين هما مهادنة إسرائيل وعدم تهديد مصالح الغرب: وهو ما تسلم به جميع الحركات الاسلامية وكلامهم على فلسطين والإسلام كلام.
وذلك ما أسميه تقديم العاجل على الآجل في الحركات الإسلامية: فلكأن الغرب خيرها بين المشاركة في الحكم بهذين الشرطين أي بدائل من الانظمة العربية الوظيفية التي لم تعد تؤدي المطلوب غربيا أو الابعاد ومساندة هذه الانظمة رغم انفضاحها حتى يطوعهم لما يراه الغرب ضروريا من “تبديل السروج”.
ولهذه العلة كنت معارضا لتسلم الحركات الإسلامية الديمقراطية الحكم بهذين الشرطين (الاعتراف بإسرائيل وبمصالح الغرب) أي التخلي عن المشروع الإسلامي الذي لا معنى له من دون وحدة العرب على الاقل لتحقيق الشروط الضرورية والكافية للسيادة استئناف الدور الكوني.
فمن دون هذا الشرط لا يمكن التحرير فضلا عن التحرر: ذلك أن الحركات الإسلامية بمجرد أن تتسلم الحكم تصبح في وضع “الضفة الغربية” في فلسطين: مجرد حرس وشرطة تحمي مصالح حامي الانظمة التابعة لأن تفتيت الجغرافيا العربية هو المتحكم في إمكاناتها ومن ثم النافي لسيادتها حماية ورعاية.
الكثير من المكتفين بالمظاهر يتصورون حكام العرب في غير الضفة الغربية أكثر حرية أو سيادة من حكومة عباس. وهذا من الخدع السياسية: بل إني اذهب إلى أن عباس ربما أكثر حرية منهم. ذلك أن قضية الشعب الفلسطيني تشبه ما كانت عليه قضية بلاد العرب الاخرى قبل الاستقلال الصوري الخادع.
وكل من تغيب عنه هذه الحقيقة يمكن أن يتصور الحركات الإسلامية التي قد تحكم يمكن ان تغير شيئا من التبعية البنيوية حماية (القواعد العسكرية) ورعاية (المساعدات الغربية). ومن كان هذا وضعه لا صلة له بالثورة ولا بالإسلام. فالثورة هدفها الحرية والكرامة. والإسلام هدفه العزة والسيادة.
وهذه الأهداف الأربعة لن يحققها الراغبون في العاجل بوهم استعمال الحكم للتغيير. ذلك أن الثورة المضادة والغرب لن يسمحوا لمن يريد تحقيق هذه الاهداف ان يحكم إلا إذا عجزوا عن منعه عنوة. وهو ما يعني ان الآجل مقدم على العاجل في تحقيق شروط الاستئناف عن طريق الثورة والمقاومة.
صداقتي مع جل زعماء التيار الإسلامي لم تمنعني من مصارحتهم بمثل هذا الكلام بل وبأكثر منه حتى قبل أن يقبلوا العمل السياسي المباشر. وما كنت لأعيد بديهيات الاستراتيجية الإسلامية التي تسعى حقا لاستئناف دور الامة والى تقديم العاجل جعلها تتفصى منها لو لم أكن أشعر بخطر المنزلق.
فالأنظمة القومية والقبلية العربية في القرن الماضي كادت تحول أزمة الامة بعد سقوط الخلافة إلى مسار شبيه بمسار أوروبا بعد تخلي الدول الأوروبية القومية على الرابطة التي كانت موحدة لأوروبا. لكن أوروبا استأنفت وحدتها القروسطية على أساس حديث فجعلها روما الجديدة التي ستعيد استعمارنا.
وكنت آمل أن تكون الحركات الإسلامية الحديثة -اي التي تريد البناء الديموقراطي منطلقا لتوحيد الامة أو على الاقل قلبها العربي -الوطن العربي- وهو معنى الصلح بين فرعي الحركة الوطنية في تونس الثعالبية والبورقيبية. لكن ما حدث هو ابتزاز السبسي للنهضة حتى تتفصى من البعد المتجاوز للقطرية.
وبدلا من أن تكون النهضة هي الأصل والنداء هو الفرع وأن يكون النسب الإسلامي هو الأساس والتميز القطري هو الفرع قلبوا الآية لأن الإسلاميين صاروا من جنس نظام الضفة يريدون دولة صورية لا سيادة لها تحكمها السفارات والمخابرات الأجنبية إيرانية وإسرائيلية وبعدد الدول الغربية.
لست أفهم كيف يستطيب المرء المشاركة في حكومة متسولة لا سلطان لها على شيء إذا ما استثنينا تقاسم فضلات ما يتركه المتحكمون الخفيون في ثروات البلاد وفي عمل العباد الذين صار يكفيهم أن يعيشوا عبيدا لا سيادة لهم ولا طموح تاريخي: أن يحدد الحامي قيمك بمعيار قيمه يعني أنك فقدت إنسانيتك أصلا.
لذلك فقد أصبح أكره شيء لدي كلمات من جنس “الوسطية” و”الانفتاح” و”الحداثة” وكلها في الحقيقة ليست صيرورة لقيم ذاتية الحيوية بل هي شروط تفرض للموافقة على قرض تتوزعه المافيات التي هي أول الناهبين لما يسمونه دولة: والنهب صنفان: سرقة مباشرة بتقاسم الأسواق وغير مباشرة بتقاسم الوظائف.
لذلك فالدولة بقرة حلوب للاتحادين اتحاد الأعراف واتحاد العمال وللساسة الذين صارت وظائف الدولة ومؤسساتها السيادية والاقتصادية والاجتماعية والإدارية موارد رزق للأهل والاحباب بأضعاف ما تحتاج إليه في بطالة مقنعة كلفتها أكبر من مداخليها فتصبح كلها كالضفة الغربية في فلسطين.
كرهت الكلام على دول العرب: كل الأسماء كلمات أضداد. المحمية تسمى دولة. القبيلة تسمى أمة. العميل يسمى زعيما. الطبال يسمى مفكر. الدجال يسمى داعية. الخائن يسمى مقاوما. الكذاب يسمى صحفيا. والثرثار يسمى محللا سياسيا. والجامع بين ذلك كله يسمى مفكر استراتيجي. تبا لأمة هذه حالها.

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock