تدوينات تونسية

هل تنفجر فقاعة الدولار بيد ترامب ؟

أحمد القاري

يلعب الرئيس الأميركي ترامب لعبة خطيرة وغير مسبوقة بتهديده دول العالم بالحرمان من المساعدات الأميركية إن هي صوتت في الجمعية العامة للأمم المتحدة لصالح مشروع قرار يبطل قراره اعتبار القدس عاصمة للكيان الصهيوني.

ترامب يخرق قاعدة غير مكتوبة تقول إن العالم يقبل بالدولار عملة دولية وبالترتيبات الاقتصادية والمالية لاتفاقية (بريتون وودز) الموقعة في أميركا سنة 1944، وبما فيها من تحكم للولايات المتحدة في قواعد الاقتصاد الدولي مقابل السخاء الأميركي بالمساعدات وأن لا تحاول أميركا الانفراد بكل الغنائم وحدها.

معظم الوفود التي شاركت في مناقشات الاتفاقية المؤسسة لصندوق النقد الدولي والبنك الدولي وقعت نصا ينحاز لمصالح أميركا بسبب حاجة الدول لقروض أميركية بعد ما مسها من دمار الحرب العالمية الثانية.
وتم تحديد مقرّي المنظمتين الماليتين الأهم في العالم معا في واشنطن، وكانت الخطة تقتضي أن يرأسهما معا أميركيان لولا ما وقع للرئيس هاري ترومان من حرج حين أخبرته الإف بي آي بأن المرشح الذي أرسل ملفه لمجلس الشيوخ لرئاسة صندوق النقد الدولي (هنري ديكستر وايت) جاسوس للسوفيات، وأنه لا يمكن بأي حال أن يحصل على الموافقة الأمنية المطلوبة للمنصب السامي.
للتخلص من الورطة، اتصل ترومان بالأوربيين وأخبرهم أن التوازن يقتضي أن يكون منصب رئاسة إحدى المؤسستين لهم وأنه يقترح عليهم صندوق النقد الدولي. وهي القاعدة الماضية حتى الآن إذا لم يراجعها ترامب.
صدمة نيكسون
في (بريتون وودز) وافقت الدول الأربعة والأربعون المشاركة على أن يتم ربط العملات جميعا بالدولار وربط الدولار بالذهب على أساس أن تكون كل أوقية ذهب معادلة لخمسة وثلاثين دولارا. لم تلتزم الولايات المتحدة بإصدار الدولار في حدود ما تتوفر عليه من مخزون من الذهب، وزاد طلب تحويل الدولار من دول أوربا إلى ذهب، مما دفع الرئيس نيكسون إلى إلقاء خطاب (صدمة نيكسون) سنة 1971 وإعلان تعليق ربط الدولار بالذهب بشكل مؤقت. وهو قرار ما يزال ساريا حتى اليوم بعد 46 سنة من صدوره.
لم يضر قرار نيكسون كثيرا بقبول الدولار في العالم. فقد ظلت دول العالم مؤمنة به. بل تحول إلى وسيلة احتياط أساسية في بنوك العالم المركزية إلى جانب الذهب وكبديل عنه.
وبالتدريج تزايدت كمية الدولار الذي يعود من بلدان العالم للولايات المتحدة لشراء سندات الخزينة، وأصبح من اليسير تمويل عجز الميزانية الأميركية المزمن عن طريق بيع السندات لعالم متعطش لكسبها باعتبارها ملاذا آمنا للقيمة.
وجاء الرئيس دونالد ريغان سنة 1981 بزيادة الانفاق والدين العام والاستخفاف بعجز الميزانية وسيلة لربح الحرب الباردة، وخلال عهده وحده تمت زيادة سقف الديون من طرف الكونغرس 18 مرة.
تسلم ريغان الحكم والدين العام أقل من ترليون دولار، ومع ذلك كان النواب والشيوخ والاقتصاديون يتحدثون عن خطورة ذلك المبلغ وعن “أميركا المنهارة بسبب الديون” ويفيضون في خطبهم في الحديث عن أثر الدين العام على الثقة في الدولار وقيمته وعلى التزام الأجيال القادمة بأداء ما استهلكته أجيال سابقة، وانتهى حكم ريغان وقد تضاعفت الديون 3 مرات ووصلت 2.7 ترليون دولار تقريبا.
ظل أعضاء الكونغرس يرددون نفس الخطاب. فيما استمروا في التصويت على ميزانيات مؤقتة وعامة تسمح بالإنفاق فوق ما توفره المداخيل لتمويل صناديق التقاعد والضمان الصحي والاجتماعي وحروب أميركا الكثيرة.
“الريغانوميكس” أو اقتصاديات ريغان المبنية على التوسع في الإنفاق الحكومي لتحريك الاقتصاد وتنشيط النمو فرضت نفسها، فهي قضت على الاتحاد السوفياتي من خلال برامج تسلح لم يتمكن الشيوعيون من مواكبتها لكثرة ما تتطلبه من نفقات ومن خلال برامج المساعدات الأجنبية السخية التي كانت توزع على الدول بالشمال ما أخذته منها باليمين، من خلال التحكم في النظام المالي والاقتصادي، ومن خلال شراء كل أنواع السلع والخدمات بدولار لا يكلف الولايات المتحدة شيئا.
واليوم تجاوز الدين الأميركي العام 20.6 تريليون دولار، أي أكثر من ديون سنة 1981 بعشرين مرة. وتعتمد الولايات المتحدة على تمويل كل العالم لنفقاتها الباهظة أكثر من أي وقت مضى، ويعتبر تدفق الدولار من الخارج لشراء السندات الأميركية شرطا أساسيا لتمكن الخزينة من دفع نفقات لا تكف عن التزايد.
انفجار الفقاعة
يتجاهل ترامب كل ما سبق ويتحدث عن المساعدات الأميركية للخارج باعتبارها عبئا غير مقبول. ويقول إن نفقات الجيش الأميركي في قواعده عبر العالم يجب أن تسترد من الدول التي تستفيد من حماية أميركا لها.
وهو في هذا يعد نفسه أذكى من كل من سبقه من الرؤساء، وأنه اكتشف فجأة مدى سفه الرؤساء السابقين الذين وزعوا المساعدات الأميركية ونشروا الجيش الأميركي بلا مقابل!
في الوقت نفسه عمد ترامب إلى تخفيض الضرائب وزيادة الإنفاق العام مما يعني المزيد من حاجة أميركا للديون الخارجية ومزيد من إيمان العالم بالدولار إيمانا يصل درجة اليقين. فالديون القديمة تسدد بديون جديدة والترليونات تتراكم بلا توقف!
وبالعودة لتهديدات ترامب بمعاقبة من يصوت في الأمم المتحدة لصالح إدانة قراره اعتبار القدس عاصمة للكيان الصهيوني، نجد أنفسنا أمام أول حالة لرئيس أميركي يهدد بعقوبات اقتصادية قد تشمل عشرات من دول العالم. بينما كانت العقوبات الاقتصادية الأميركية دائما وسيلة ردع وتخويف يتم من خلالها استهداف دولة لتخاف الدول الأخرى وتدخل بيت الطاعة.
كان في سلوك الرؤساء الأميركيين السابقين شيء من المنطق الناتج عن استماعهم لأعضاء دواوينهم ولمستشاريهم وفهمهم حقيقة التوازنات الاقتصادية “المؤقتة” لما بعد الحرب العالمية الثانية، ويبدو أن طبيعة ترامب وثقته بأنه يفهم أفضل من الجميع، وبأن أميركا يمكن أن تدار كما يدير شركاته من خلال القروض والصفقات المتعسفة على الآخرين.
إنه عهد رئاسة رجل يحب أن يلقب بـ “ملك الديون”، فهل يكون هو الرئيس الذي تنفجر في عهده فقاعة الدين الأميركي وما يرتبط به من اقتصاد عالمي قائم على العجز المالي والتمادي في الاقتراض بغير نهاية؟

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock