تدوينات تونسية

البوعزيزي… إنّني أوقدت نارا

نور الدين الغيلوفي
“إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى”
قرآن كريم
في مثل يومنا هذا من سنتنا التي خلت… يوم 17 ديسمبر 2010 وَرَدَنا من الأنباء ما فيه مزدجر… فتى من سواد الناس يوقد جسده نارا… يتّقد الجسد فتصاب الظلمة من أوّل وهلتها في مقتل، وهي لا تدري، لأنّ الرؤية استأثر بها الراوي… والراوي قد اختار في سرد ثورته الاختباء…
يصحو الحاكم من سكرته فيأتيه العسس بالخبر في ذيول الكلاب… يستهين من ظنّ يوما أنّه الواحد القهّار بالخبر والمختبَر وبذيول الكلاب… يعاوده صداع سكرته وتراوده نكهة التدخين فيدعو بسيجارة… توقَدُ له السيجارة… يرى في قبس الوقود يدا تصفعه وترفع في وجهه شارة النصر… عبثُ بصيرته يعود إليه!… لم يفهم من حماقته ما رأى… وابتسم ابتسامته البلهاء… قال داخل علبته وبين نخبته قولا نابيا لا نسمعه من غير الرغوة الزائفة يحكي استهانته بالمُوقِدِ والوقود… وتخرق الاستهانة سدود العلبة لتستقرّ في أسماع شعب مرّ جميع بنيه في طفولتهم بأنشودة قالها يوما شاعر لهم نبيّ… ردّدوها في صباحاتهم والأماسي “إذا الشعب يوما أراد الحياة…”
تأتي صاحبَ القصر أنباءٌ… يسمعها فيردّد، وقد أخذته العزّة بالإثم، قوله النابي “إلى الجحيم”… يجد من المتعة ما لا يعلمه ممّا وجد نيرون ذات هوى أثيم لمّا اشتهى أن يستمتع بمشهد حريق روما… ما ضرّ لو احترق الشعب كلّه ولم يبق للظالم المستبدّ غيرُ الآل وما وافق الأهواء من الأتباع ! يردّد إثمه وهو لا يدري أنّه يجهّز حقائبه إلى الجحيم… مستقرّه ومعاده…
البوعزيزي يحترق… يتطهّر بناره المقدّسه من دنس الظلمة واللصوص… فمن شرب ماءً بحضرتهم وجب عليه الغسل لأنّ الكلاب قد ولغت في الإناء… وقد كان غُسْلُ البوعزيزي نارا هذه المرّة… نارا تغسل عارا… وليس مثل النار مغتَسَلاً للعار… أفليس من العار أن يحكم هذا الشعبَ العبقريّ مثلُ ذاك الغبيّ نيفا وعشرين سنة؟ كان لا بدّ من النار تُذهب ما استعصى من الدنس المقيم دهرا…
إنّ للتاريخ عقلا… وقد شهد التاريخ العاقل أثقالا أنهكت حركته… أثقالا كان يجدها من تثاؤب المطمئنيّن رغم علوّ الأنين… اشتعلت النار فاشتغلت باشتعالها الذاكرة “إذا الشعب يوما”… أجابت الفاهمة “أراد الحياة”… ولقد أراد… تحرّكت عجلة الفعل ترجمة للعبارة المخبوءة في حنايا الخواطر… تجاوبت الأصداء “حذار فتحت الرماد اللهيب”… ولقد شبّ اللهيب… وحان جَنْيُ الجراح… أشواك الظالم تجرحه… لقد اختار التاريخ بوعيه الحادّ لحظة السحر العابرة للحدود… التقط من الإشارات ما خفّ حمله وعلا ثمنه… “فلا بدّ أن يستجيب القدر”… ولقد استجاب… الحياة غانية مهرها من دم عاشقها… وقد أتى على الشعب دهر وهو يراكم مهر غانيته حتّى أذنت بالعناق… ما ألذّ العناق بعد طويل الفراق… ودأب العشّاق أن “لا يأس من التلاقي”…
احتفل الشعب بزواج الذاكرة والفاهمة… وأنتج الزواج فعلا عبقريا أعاد المراد إلى المريد وقد استحقّه عن جدارة… ولقد دنت جنان الثورة بثمرها… وجاء الثمر منجَّما…
ندرك أنّ “الكون يثقل إذا همّ أن يكون”.. وليس أثقل من كون شعب كان “ذرّات من غبار”.. يصعب على “ذرّات الغبار” أن تتحوّل بشرا يريد ويرى ما يريد.. لقد خدعوه دهرا بعناوين برّاقة أعشت بصره ولم تهده سبل احترامه…
ونعلم أن الميراث ثقيل.. وأنّ التتويج صعب.. وأنّ أذى الطريق كثيف.. ولكنّ الحرية سيدة المعاني بعد أن دنت فانهمرت ستغدق من عطائها رغم الجوع الكافر ورغم العقبات المتراكمة والمنغّصات المتراكبة.. ورغم كثرة الأهوال وشراسة قطّاع الطريق..
الحرية هي المفتاح والكرامة قاب قوسين أو أدنى والشعب يريد..
فلا تلعنوا ثورة قلّ نصيرها وأملا تركه أهله…

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock